أدب و ثقافةروايات و قصص

العنقاء الجزء الرابع والأخير

محمد رضا كافي

“أون هي مدينة الشمس أو هليوبوليس كما اسماها اليونانيون وتقع في ضاحية بشمال شرق القاهرة حيث تقف مسلة من الجرانيت الاحمر خلف المنازل، وهي المعلم الوحيد الظاهر من مدينة عمرها سبعة آلاف سنة … ”
كنت أردد تلك الكلمات و نحن نهرول إلى الشارع بحثا عن وسيلة تنقلنا إلى المكان المنشود حيث قال “حسام ” :
– أنا أعرف تلك المسلة …لقد مررت بها ذات يوم… تقع بـمنطقة “المطرية” …

فقلت و أنا أنظر إلى ساعتي :
– لم يتبق لنا الكثير … لابد أن نصل إلى هناك بأسرع وقت..
– من المستحيل أن نصل في الوقت المحدد …
فنظرت في عينيه و قلت في حزم :
– طالما نبحث عن المستحيل …فسنواجه المستحيل ..

عندها مرت سيارة أجرة ,فألقيت بنفسي أمامها ففزع السائق وهو يضغط على المكابح بقوة ,و قبل أن يتفوه بكلمة واحدة ألجمته بورقة مالية من فئة المائة جنيه , فأخذها على الرحب و السعة و انطلق بنا إلى مكاننا المنشود ,مستخدما مهارته في القيادة لإختراق الزحام الرهيب الذي واجهنا ,رغم أن الأمر لم يسلم من عقبات المرور …..
وأخيرا وصلنا إلى المسلة فهرولت خارجا من السيارة و يتبعني “حسام” بينما خرج السائق ووقف بجانب السيارة و هو يراقبنا متعجبا و نحن نركض باتجاه المسلة , و كان الجرانيت الأحمر يتوهج تحت أضواء الألعاب النارية رغم الألواح الخشبية الخاصة بالترميم الملفة حوله ,فلمحت في وهج أضواء الألعاب النارية شخص يقف عند قمة المسلة على أحد الألواح,فعرفت أنه “خالد” فتوقفت مكاني أنا و “حسام” الذي قال في دهشة :
– ماذا ينوي أن يفعل بحق الله ؟
وقبل ان اجيبه إذا بوهج شديد يخترق السحب مصحوبا بصوت طائر ما سمعت مثله من قبل , فإذا بطائر ذهبي ضخم يتوهج إحمرارا يهبط باتجاه المسلة , فاتسعت عيناي دهشة لما أراه حقيقة أمامي و كان حتى الأمس ضربا من ضروب الخيال و المستحيل , بينما فغر “حسام” فاه قبل أن يقول :
– يا إلهي !! ماهذا الشيء بحق الله ؟

فقلت هامسا و كأنني أحدث نفسي :
– العنقــاء !!
وهبط الطائر العظيم أسفل المسلة بينما نظر “خالد” فوجدنا فابتسم لنا قبل أن ينظر للعنقاء و كأنه يعرف ما سيحدث , وماهي إلا لحظات حتى انتصب الطائر و صفق بجناحيه بقوة فاشتعلت نار عظيمة به حتى أننا تراجعنا من شدة حرارتها , وبنفس غرابة اشتعالها , خمدت النار بعد ثوانٍ قليلة , وفجأة
وفجأة انقطعت الألعاب النارية و انطفأت الأضواء , ولم يتبق غير الرفات الذهبي المتلألئ , فنظرت إلى ساعتي الفسفورية فأدركت انه لم يتبق غير ثوان قليلة على بداية الألفية الجديدة , وشعرت بأصابع “حسام” وهي تربت على كتفي و هو يشير باليد الأخرى في ذهول دون أن ينبث ببنت شفة إلى موضع رفات الطائر , فوجدت ذرات الرفات الذبية المتلألئة أخذت تموج و تدور حول نفسها كالدوامة , و في قلبها كأن جسد طائر يأخذ في التشكل قطعة قطعة , حتى إذا إكتمل على صورة الطائر السابق , أخذ في الإنتفاض مع عودة الأضواء و الألعاب النارية و قد اختلط صوته بصيحات الجماهير الآتية من بعيد , ثم فرد جناحيه العظيمين و بدأ يخفق بهما و يطير حول المسلة صعودا و ذرات الرفات الذهبي تتناثر منه حول المسلة فجعلت من مشهد المسلة مشهدا خياليا و الوهج الذهبي محيط بها , حتى إذا اقترب الطائر من قمة المسلة توقف بالقرب من “خالد ” الذي قفز على ظهره , فعدوت ناحيته و أنا اصيح :
– انتظرني يا “خالد” …خذني معك .
فابتسم “خالد” وهو يقول :
– لكل منا قدره يا صديقي … لكل منا قدره ..

ثم لوح لنا بيده و انطلق بالعنقاء يشق السماء مارا بالجماهير الغفيرة المتجمعة من بعيد ,فصاح الجميع ملوحين ظنا منهم أنه عرضا آخر , عندها تذكرت عبرة قرأتها و رددتها في نفسي :
– و يحيي شعب مصر هذا الطائر العجيب قبل أن يعود لبلده في الشرق …
عندها قال “حسام” وهو ينفض رأسه من الذهول :
– قل لي أن ماحدث لم يكن حقيقيا ..
فوضعت يدي على كتفه وأنا أقول :
– لا…كان حلما….حلما لا يتكرر إلا كل ألف عام..
فابتسم “حسام” وهو يقول :
– إذن قد يسعد الحظ رفاتنا في المرة القادمة …

عندها نطق الشخص الذي نسينا وجوده معنا طوال تلك الفترة قائلا :
– الأقدار هي من تقود الإنسان …و ليس الإنسان من يقود قدره ..و لكن قد يستطيع تغيره إذا أراد ..
فالتفتنا إلى السائق وكان متكئا على سيارته وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة عجيبة فقال “حسام” في دهشة :
– ما هذا ؟ ماذا تقول ؟
فنظر الرجل إلينا بعينين لامعتين وهو يقول :
– ما يجب عليكم أن تنتظروا السعادة على أجنحة طائر …و لإن فعلتم … فلسوف تأكلكم ديدان المقابر قبل أن تحصلوا عليها … السعادة كامنة بيد الإنسان …طالما يعرف الخير و الشر, و الحق و الباطل , و الظلم و العدل … وعليه أن يختار …و عليه أن يدافع عن سعادته بدمه ..حتى يستحقها ..

فقال “حسام” في حيرة :
– من أنت بحق الجحيم ؟

فقلت وقد ارتسمت على شفتي شبح ابتسامة :
– أنت الملاك الذي أتى “خالدا” … و أنت الذي جئت بنا لنشهد نجاته من الواقع الأليم ..

فابتسم الرجل وقال و هو يتلاشى مع سيارته :
– ما أنا إلا رسول …و ما على الرسول إلا البلاغ ..

ثم اختفى الرجل و سيارته و لم يبق لهما أثر , فنظر “حسام ” إلي قائلا :
– بحق الله !! على أي كوكب نحن ؟

فقلت بصوت حزين و أنا أنظر إلى السماء:
– لازلنا في الدنيا يا صديقي …لازلنا في الدنيا ..

وظل فكري معلقا بالعنقاء …رمز الحرية و السعادة الأبدية … لم نستطع البوح بما رأينا…لأننا لم نصدق ما حدث ..فكيف نتوقع أن يصدقنا أحد ؟..و رغم أن كثيرًا من الناس قد رأوه ..إلا أنهم لم يعرفوه… وكانت تلك اللحظة من اللحظات التي يوقن المرء أنها لن تحدث مرة أخرى في حياته ,أو لأجيال عديدة… أو ربما لن تحدث أبدا …

***تمـــــت**ا

اظهر المزيد

نهاد كراره

نهاد كراره محاسبة وكاتبة مصرية صدر لها كتب مشتركة مثل بوح الصحبة و قطرات مطر وكتب فردية نيسان الوجع مدن الفراشات الدمشوري وآخر حدود الحلم نشرة العديد من المقالات علي المواقع الالكترونية المختلفة كموقع قل مقالات اجتماعية وبعض القصائد العمودية والعامية علي المواقع الأخرى صدر لها عدد من القصص في جرائد مختلفة منها صوت الشعب و جريدة القصة وغيرها عضو مجلس إدارة لموقع الصحبة نيوز مدير تنفيذي لدار الصحبة الثقافية للنشررالإلكتروني
زر الذهاب إلى الأعلى