العقيدة و الدين

السُّنَّةُ التشريعية والسُّنَّةُ غيرُ التشريعية

بقلم: حسام الدين عوض

السُّنَّة هي كلُّ ماصدرَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير (أي: كلُّ أحداث حياته) ، فإذا وضعنا في اعتبارِنا أن كثيراً من أحداث حياته قد صدر منه على سبيل الحاجةِ أو العادةِ أو الجِبِلَّة ، فضلاً عن كونه -صلوات ربي وسلامه عليه- بشر ؛ قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} سورة الكهف : الآية 110
فيتَّضِحُ مما سبقَ أنّ السنة منها ماهو تشريعي ، ومنها ماليس بتشريع
أبدأ بهذا الخيط (بشرية الرسول صلوات ربي وسلامه عليه) حتى أصل لبغيتي التي أختصرها في هذه النقاط الأربع:

  1. ماهو الخط الذي يفصل بين البشرية وبين الإلهية؟ وماهي انعكاسات ذلك وتطبيقاته على الواقع؟ (يشمل الردَّ على اليهود والنصارى)
    أ. الخط الفاصل هو الاتصاف بصفات الكمال في مقابل صفات النقص ، فالله تعالى متصفٌ بكل كمال ومنزَّهٌ عن كل نقص ، ولهذا كان أحد مايضرب دعوى إلهية المسيح -عليه السلام- في صميمها أنَّهُ كانَ يأكل الطعام (من لوازمه الإخراج) وأنه كسائر البشر يمشي في الأسواق (ليشتري احتياجاته من طعامٍ وشرابٍ وكساء) وحاشا لله أن تخرج منهُ الرَّوائحُ الكريهة ، أو أن يكون محتاجاً لغيره وهو الغني عن كل ماسواه ، فضلاً عن أن يحلَّ في جسدِ أحدِ مخلوقاته لينفذ خطته في التضحية بناسوته حتى يفدي البشر من خطيئة آدم ، ثم تنتهي تلك الخطة بتعليق اليهود له على الصليب حيث يستغيثُ بنفسه (أقنومه الأول) قائلاً: إلهي إلهي لماذا تركتني! (فلماذا يتراجع إذن في هذه اللحظة عن خطته التي وضعها؟!)
    ب. التطبيق الذي يعنينا هنا أنَّ البشريَّ لايملكُ حقَّ التشريع الديني ، لأنَّهُ حقٌ إلهيٌ صميم (جماعات التطرف والهوس الديني لم تفهم الفرق بين التشريع الديني الذي يتعلق بالحلال والحرام ، وبين التشريع الدنيوي الذي يُعنَى بالقوانين التي تنظِّمُ حياة الناس ، خلطوا بين الاثنين فوقعوا في المحظور!) ولهذا فكلُّ تشريعٍ دينيٍ جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس من عندِه لأنه هو نفسه مأمورٌ بتبليغ الشرع الشريف ، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه) المائدة : 67 ، وقال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يونس : 15 ، وقال تعالى: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إلا نَذِيرٌ مُبِينٌ) الأحقاف : 9
    الخــــلاصة: الرسول لايشرِّعُ شيئاً من عنده ، بل هو متبعٌ يتبعُ ما أمَرَهُ به الله رب العالمين.
  2. قال المعارض .. كيف؟ وقد جاءت أحكامٌ كتيرةٌ من جهة الرسول ولم يأتِ ذكرُها في القرآن الكريم ، مثل عدد ركعات الصلاة ونصاب الزكاة ومناسك الحج وغيرها (يشملُ الردَّ على القرآنيين)
    الإجابة ببساطة: أنَّ هذه هي السنَّةُ التشريعية ، والرسول لم يأتِ بها من عنده فإما أن الرسول قد فهمها من القرآن العظيم ، وإما أنَّهُ قد أُوحِيَ إليه بها لكنَّهَا ليست قرآناً يُتلَى ، فهي مفسِّرة وموضِّحة ومبيِّنة للقرآن وليست مكمِّلةً له لأن القرآن ليس فيه نقص يحتاجُ إلى تكميل وإنما إجمالٌ يحتاج إلى تبيين
    الخـــلاصة: السنة التشريعية حُجَّةٌ ملزمةٌ ، وتشتمل على أحكامٍ تفصيلية على وجهِ تبيين مُجمَل القرآن العظيم ، وتأويل مُشْكَله ، وتفسير مُتَشَابِهِه.
  3. قال المتسائل: فهل كلُّ أحداث حياته -صلى الله عليه وسلم- كانت لنقل التشريعات الإلهية؟ (يشملُ الردَّ على الظاهريين والوهَّابيين)
    الإجابة :لا وبكل تأكيد ، لأن البشرَ جميعاً يفعلون أموراً مشتركةً على سبيل الحاجة .. أو العادة .. أو الجبلة
    فمثلاً: لو سألك سائل: هل ذهابي إلى دورة المياه متى شعرت بالحاجة إلى ذلك مباح؟!
    فلو أجابَهُ غيرُهُ قائلاً: نعم هو مباح! كان ذلك المجيبُ مُتَعَسِّفاً ومُتَكَلِّفاً! لأنها من الحاجات الفطرية الجِبِلِّيَّةِ التي يشتركُ فيها البشر جميعاً مؤمنُهم وكافرُهم وعالمُهم وجاهلُهم وكبيرُهُم وصغيرُهُم ، وليس للشرع فيها قولٌ ! فليس للسائل أن يسأل ولا للمسئول أن يجيب!
    الخــــلاصة: السنة فيها التشريع ، وفيها ماليس بتشريع ، وهذا يردُّ على كل من تكلَّف أموراً متعلقة بالطبّ ونحوِهِ من الوصفات العلاجية التي نسبوها للرسول وخلعوا عليها من هالات القَدَاسَةِ والعصمة مالاينبغي لهم ، فضلاً عن أمورٍ أخرَى من الهدي الظاهر ألزموا أنفسهم بها على اعتبار أنها سُنَّة ، رغم أنها ليست من التشريع في شئ.
  4. قال المعارض: فمادليلُك على هذا الذي قلتَه في (3) ؟ والجواب: أربعة أدلةٍ تقطعُ بتمامِها قولَ كلِّ خطيب
    أ. في غزوة بدر: وقف الصحابي الجليل الحباب بن المنذر وقال للرسول: أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال الرسول: بل هو الرأي والحرب والمكيدة! فقال الحباب: يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل !! ونزل الرسول على رأيه.
    لاحظ أنّ أحداً من الصحابة لم يقل للحباب: كيف تعدّلُ على رسول الله؟! أو .. كيف تراجع رأيه!! أو .. كيف تعارض رأيه برأيك!! أو .. كان الأولى بك أن تلزم رأيه بنية التعبد لتُأجرَ عليه ..!! الخ الخ
    فما الذي نفهمه من هذا الموقف؟ تفهم منه أنَّ الصحابة كانوا يعرفون الفرق بين (مقام الرسالة) وبين (مقام النبوة) .. الرسول يعني يبلِّغُ رسالةً من الله وهو معصومٌ فيما يبلغه عن الله (وماينطق عن الهوى إن هوَ إلا وحيٌ يوحَى) أما النبي فله صور مختلفة كأب وكزوج وكقائد عسكري وسياسي والرأي منه في أمور الدنيا كالرأي من غيره يحتمل الصواب والخطأ (ارجع لنقطة 1 في الفصل بين الإلهي والبشري) هذا وإن كان -صلى الله عليه وسلم- أكملَ الناس عقلاً وأرجحَهُم رأياً ..
    ب. في التفاوض مع غطفان: فاوض الرسول غطفان على ثلث ثمار المدينة فذكر ذلك لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة وهما عندها كبيرا الأوس والخزرج ، فقالا: يا رسول الله، أشيء أمرك الله به فلا بدَّ لنا منه؟ أم شيء تحبُّه فنصنعه وبعد أن ألحَّا قال لهما الرسول: بل شيء أصنعُهُ لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا أنِّى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، فردا عليه قائلين: والله لا نعطيهم إلَّا السَّيف!
    جـ. في مسألة تأبير النخل: حين ذهب الرسول إلى المدينة وجد الناس يلقحون النخل ، فأشار عليهم ألا يفعلوا ، فماذا حصل؟ لم يثمر النخل بلحاً! فرجعوا إلى الرسول فقال لهم: “إذا أخبرتكم بشيء من أمر دينكم فإنما هو بوحي ، وإذا أخبرتكم بشيء من أمر دنياكم فإنما أنا بشر ، وأنتم أعلم بأمور دنياكم” (كلامٌ واضح لايحتاج إلى شرح).
    د. في موضوع إصدار الأحكام: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ , وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ صَاحِبِهِ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ شَيْئًا مِنْ مَالِ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلا يَأْخُذْهُ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ” (وهذا يؤكِّد الجانب البشري فيه صلى الله عليه وسلم).
اظهر المزيد

حسام الدين عوض

مهندس مصري وكاتب وباحث في الشؤون الإسلامية ، حاصل على بكالريوس الهندسة ، ماجستير إدارة الأعمال ، دبلوم الدراسات العليا في الشريعة الإسلامية
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى