التراث الإسلامي .. والإسقاط الخاطئ!

بقلم حسام الدين عوض
لاتكاد توجد مسألة واحدة تستند إليها داعش وغيرها من تيارات الغلو وجماعات التطرف .. إلا ولها جذور في الفكر الإسلامي وفي أقوال العلماء الكبار!
وقد أفضى هذا إلى بروز تيارٍين اثنين إزاء تلك المعضلة الكبيرة
الأول : عاش محاولة الإنكار ، وهو يستنزل اللعنات على “داعش” وأخواتها بينما هو يرفض أي مساس بالتراث!
الثاني : سمَّى كتب التراث بالقمامات الفكرية ، وطالب بالتخلص منها وبأن تنفض الأمة أيديها منها حتى تتقدم ويتغير حالها!
والواقع أن كلا التيارين لم يدرك …
أولاً: تطور مفهوم التجمعات البشرية .. وتوضيح إشكاليات اليهود والنصارى
كانت التجمعات البشرية في الزمن الذي نزلت فيه رسالة الإسلام العظيم كانت قائمة على أساس (أُمَمِيّ) .. يعني مجموعات قبلية أو عرقية أو دينية تدين بالولاء لزعيم ديني أو رئيس قبيلة أو ملك ، وكانت الإمبراطوريات الكبيرة التي تحكم العالم في ذلك الوقت تقهر الناس على دين ملوكها .. وبالتالي فقد كان من اليسير أن نشير إلى أمة قائلين هذه أمة اليهود .. هذه أمة النصارى .. هذه أمة المجوس .. وهكذا
ثم حصل تطورٌ كبير في هذه المفاهيم .. وطرأت عليها تغييرات كاملة .. على النحو التالي:
1. حين يسأل أحدهم اليوم قائلاً أين النصارى اليوم؟ فيقال له : عددهم 2.5 مليار إنسان وهم منتشرون في مختلف دول العالم .. ومنقسمون لثلاثة مذاهب رئيسية ..
لكن إذا سأل هذا السائل: فأين أمة النصارى؟؟ فيجاب عليه: ليس هناك شئ يدعى أمة النصارى لأن المفهوم الأممي تطور وتحول إلى دُوَلَ قطرية!! تحكمها دساتير علمانية قائمة على أساس المواطنة وليس الدين ، ويحق لكل مواطنيها أن يعتنقوا أي دين سواء سماوي أو حتى وثني هما أحرار .. وعليه فلاوجود لشئ يدعى أمة النصارى لأنه ليس لهم دولة تمثلهم! كما ليس للكفار دولة تمثلهم كما كان حال مشركي قريش .. انتهى كل هذا وزال تماماً
أما ..
2. إذا سأل أحدهم .. أين اليهود اليوم؟ فيجاب عليه : حوالي 20 مليون إنسان منتشرون في دول العالم .. جميل .. فأين أمة اليهود إذن؟؟
فيجاب عليه .. هاهي ((دولة)) الكيان الصهيوني لأنها دولة قائمة على أساس الديانة اليهودية ..
فحين يأتي أحدهم بكلام فقهاء الأمة القدامى في قضايا (الولاء والبراء) و (جهاد الطلب) و (دار الحرب) و (أحكام أهل الذمة) ونحوه .. فهو بهذا يستورد كلاماً قيل في أوضاع مختلفة تماماً وسياقاتٍ أخرى ثم هو يريد أن يسقطه على أوضاعنا الحالية .. وهذا أحد أهم أسباب الهوة السحيقة اللي انزلقت إليها داعش وكل من نسج على منوالها من جماعات التطرف والغلو
ثانياً: تعقد المجتمعات والمتطلبات الحياتية وتعقدها .. وتوضيح إشكاليات قضايا المرأة
كما تغيرت إسهامات المرأة في المجتمع بتغير وتعقد وتشابك علاقاته ، فكان لزاماً على علمائنا أيضاً أن يراجعوا في تراثنا المفاهيم المتعلقة بتولي المرأة للمناصب العامة والقضاء وشهادتها ونحو ذلك من الأمور
وعلى سبيل المثال .. فمسألة شهادة المرأة التي هي على النصف من شهادة الرجل ..
قلت: الشهادة من المشاهدة ، والكلامُ هنا توجيهٌ في عقود الأموال لصاحب المال وليس للقاضي ، وهذا التوجيه لايُفهَمُ منه الإلزام ، والمرأة -في الغالب- لاتعرف الكثير في المعاملات المالية ، فإن كانت متخصصة في هذا الباب (أستاذة جامعية في الاقتصاد أو المحاسبة مثلاً) كانت شهادتها أولى من شهادة عامل بناءٍ مثلاً وإن كان ذكراً .. فالمسألة ليست متعلقة هنا بالأنوثة في مقابل الذكورة ، وإنما بالاختصاص والمعرفة وسعة الخبرة
وأما بين يدي القاضي ، فالقاضي يأخذ بالبراهين والأدلة والقرائن التي تجتمع بين يديه حتى يصدر حكمه ، ولو كان من بين هذه القرائن شهادة امرأةٍ واحدة شاهدت وقوع جريمة ما بعينها ، ولايقول عاقل فضلاً عن جاهل إن شهادة المرأة المنفردة في هذه الحالة تعدل نصف قرينة!!
ثالثاً: مفهوم إقامة الحجة وتوضيح إشكاليات التعامل مع الآخر
لايخفى على أحد ماتعرّض له المسلمون في كثيرٍ من بقاع الأرض من جرائم الكراهية الدينية كما في أوروبا (كوسوفو-البوسنة والهرسك) وكما في آسيا وإفريقيا (الروهينجا – الهند – بورما وكشمير – نيجيريا ووسط إفريقيا) ولاشك أن كثيراً منها كان مغلفاً بغلاف ديني من الهوس والتعصب الممقوت
فإن قال قائلٌ: فكذلك كل حربٍ سعت لاستئصال شأفة الدين وأهله ، كانت تنطلق من منطلقات نفعية بحتة ، وعلى هذا المنوال نسج مشركو شبه الجزيرة العربية ، فهم لم يحاربوا الرسول صلى الله عليه لأجل الاعتقاد ، وإنما حاربوه لعلة المصالح
فأقول: هذا الفهم المنقوص المبتور قد أنشأ في الفكر الإسلامي المعاصر تيارين غاليين على النحو التالي:
أما الأول فهو تيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي تصوَّر أن مشركي مكة كانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية (الله خالقٌ رازقٌ متصرفٌ في شئون الكون) حيث قسَّم التوحيد إلى ثلاثة أقسام منفصلة: الألوهية – الربوبية – الأسماء والصفات ، فنسب المشركين لتوحيد الربوبية!! ثم حمل السلاح على من سماهم الشيخ النجدي (مشركي زماننا) لأنه تصور أنهم أشركوا في الألوهية التي هي جريمة مشركي مكة الوحيدة!
وأما الثاني: فهو تيار الأستاذ سيد قطب .. الذي أضاف للتوحيد قسماً رابعاً سماه (توحيد الحاكمية) وقد تصوَّر أن مشركي العرب حاربوا الإسلام لعلة المصلحة ، ونظير هؤلاء في زماننا كل من سعوا لحرب الإسلام لذات العلة ، فهم فيه سواء (الجاهلية)!
ويجابُ على أولئك وهؤلاء بما يلي:
1. لن يتكرر بحالٍ حالُ مشركي شبه جزيرة العرب مرة أخرى ، حيثُ إنَّ الرسول الكريم قد نشأ بين ظهرانيهم وعرفوه هم بالصدق والأمانة ، فلم يكن ليمتنع عن الكذب على الناس ثم يكذب على رب العالمين.
2. وقد نزل القرآنُ العظيمُ فيهم فتحداهم -وهم أهل البلاغة واللغة- أن يأتوا بسورةٍ واحدةٍ من مثله فأعلنوا عجزهم! وبدل أن يلقوا إلى الإسلام حكمة الانقياد ويبسطوا إليه يد الافتقار ، عاندوا وكذبوا (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً) صدق الله العظيم
وبهذين الأمرين قامت عليهم الحجَّةُ الرساليةُ القاطعة باعترافهم هم أنفسهم أن القرآن ليس من جنس كلام البشر ، وإنما منعهم من اتباع الرسول أن الإسلام كان يمثل ثورةً شاملةً على أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية فعاندوا الدعوة وحاربوها رغم تيقنهم في سلامتها عن كل معارض!
وبالتالي فكل من يخالفنا الاعتقاد من أهل الأرض ، لايمكن بحالٍ أن نقيم عليهم الحجة بمجرد دعوتهم إلى الإسلام او فتح طرق النقاش والحوار معهم ، فلا هم أهل اللسان العربي كما كان مشركو العرب ليعرفوا أن القرآن العظيم ليس من جنس كلام البشر ، ولا عاش الرسول الكريم بين ظهرانيهم فشهدوا له بالصدق والأمانة ثم عادوا فاتهموه بالكذب والخيانة كما فعلت قريش!