أدب و ثقافةروايات و قصص

البصمة رواية مسلسلة الجزء السادس

إيهاب بديوي

مقدونيا
لم يُقبل أرضا من قبل، ولم يشعر بحنين إلى تراب وطنه إلا الآن حين نزل البعض من البلم قبل أن يستقر على شاطئ مجهول وأسرعوا يقبلون رمال الشاطئ.
نزل مدفوعا بغريزة البقاء ومطعونا بسيف الفراق والحنين.
بعد أن هدأت مشاعر الجميع طلب منهم قائد المركب أن ينتظروا قليلا مجيبا على تساؤلات البعض حول الخطوة التالية خاصة بعد أن اختفى البلم الثالث، أيقن الجميع أنه غرق هو الآخر، هم الناجون من مذبحة البحر إذن.
عاوده الصوت الصارخ في ذاته:
– هل ارتاحوا الآن؟ دفعوا كل تلك الأموال ومروا بكل هذه الأهوال حتى يختاروا قبرا مختلفا في معدة وحش بحر جائع أو فوق رفات جندي نفذ أوامر بشر ينصبون أنفسهم آلهة ليعطوا لأنفسهم قدسية تبرر جنونهم! ما أشبه الليلة بالأمس، وكأنها جينات خاصة تتنقل عبر الزمن لتختار مرضى يحكمون الأرض ولا يشبع جوعهم سوى شرب الدماء وتناول لحوم البشر..
قطع الصمت صوت شاحنة تطلق أبواقا متتالية، قاموا في صفوف منتظمة ووقفوا في طابور عسكري كما أمرهم المسلح الخشن الذي نزل من سيارة جيب مصاحبة للشاحنة المغلقة، ثم نزل آخر وطلب منهم ركوب الشاحنة بهدوء ونظام، وشرحوا لهم أثناء ذلك أنهم يقدمون لهم خدمة زائدة ليفادونهم مشاكل البصمة وتهديدات حرس الحدود.
كانت المرة الأولى التي يسمع فيها هذا التحذير، لم يأبه له كثيرا لأنه لم يفهمه، كان آخر ما سمعه قبل أن يسلم نفسه للنوم مجبرا أن الرحلة قد تستغرق يوما حتى حدود مقدونيا.
نام كالميت وسط تلاحم خانق للأجساد العربية والأفريقية وكمية ضعيفة من الهواء لا تتجدد إلا من خلال هواية صغيرة جدا في أحد الأركان.
هاجمته أشباح الإرهاق ووجوه زوجته وبناته وهم يودعونه بابتسامة رضا قبل لحظات من تركه المنزل ونزول قذيفة عليه، لم يستطع أن يحدد هل هي صاروخ أم برميل أم دمعة حزينة لدعوة غاضبة من عين أمه وهي تطلب منه ألا يتأخر اليوم لأن قلبها منقبض، شاهد المنزل يتهدم أمام عينيه، لو كان استجاب لوالده ألا يذهب يومها إلى العمل لخطورة الشوارع لرافقهم إلى السماء في ركب الشهداء، لكن لابد أنه غضب الله عليه لتجاوزات ما في حياته أو ابتعاده عن مساعدة المتضررين طوال سنوات الحرب هي التي جعلته يلاقي هذا المصير المظلم.
أفاق من كابوسه على صوت صراخ إحدى السيدات:
– إبني يموت، لم يعد يستطيع التنفس، الجو خانق جدا.
طرق بعض الموجودين بجنون على خلفية الصندوق، لم تتوقف السيارة.
يقسم أنه رأى روح الصغير وهي تخرج، ويؤكد أنه رآها تقف قليلا وتقبل رأس أمه قبل أن تختفي:
– ما أكثر حظك أيها الصغير وما أسعد والدتك بتمهيدك لها، ستذهب إلى الله وتشتكي له، أخبره عن حالنا، لا تطلب العون لوالديك فقط، نحن أهلك، جمعنا مصير واحد وحلق فوقنا ملاك الموت معا، لا تكن أنانيا يا صغيري، أعرف أن بناتي في انتظاري أيضا، لكنهن عشن تجربة الموت مرة واحدة، نحن نعيشها كل يوم يا صغيري.
توقفت السيارة أخيرا، لم يعرف كم مر من الوقت، لكنه يوم أو بعض يوم.
فتح الباب فانهالت اللعنات على من فتحه، مات مع الصغير عجوز مريضة وشيخ حزين.
فوجئوا بطلقات تحذيرية من الشكوى، طلبوا من الجميع بانجليزية ركيكة أن يتجمعوا لاستكمال الرحلة، أخبروهم أن نهاية أموالهم ستكون على حدود مقدونيا مع صربيا، بعد ذلك كل شخص عليه أن يدبر أموره ويحدد وجهته في أوروبا:
– لقد فعلنا معكم ما تمليه عليه ضمائرنا، وفاديناكم البصمة وشرورها وأبعدناكم عن السلطات المتحفزة ضدكم وعاملناكم أفضل معاملة.
ابتسم ساخرا من كل ما قيل، ولم يتوقف عند التفاصيل التي لم يفهم أهميتها.
نقلتهم السيارات إلى منطقة جبلية وعرة، ثم انطلق كل في اتجاهه، البعض اختار ألبانيا ليعبر منها إلى إيطاليا عبر البحر مرة أخرى، والبعض اختار الذهاب إلى بلغاريا لوجود أقارب، وأكثر من النصف اختار الإستمرار حتى صربيا ثم المجر ومنها إلى النمسا أو ألمانيا.
حسب ما عرف سيسيرون على الأقدام مسافة تقارب الثلاثين كيلو مترا، ربما يوم تقريبا.
استمع في مسيرته إلى أحلام وآمال وإحباطات كثيرة، لكنه في أغلب الوقت كان يتأمل في جمال الغابة وأشجار الصنوبر النادرة التي تحيط به من كل جانب، ويخترق التاريخ ليصل إلى أحد أعظم قادة العالم القديم الذي ولد فيها، أجاب على سؤال عن طبيعة المكان والزمان لأحد المرافقين:
– الأسكندر الأكبر أو المقدوني، الشاب الذي غير التاريخ حين أنهى الحضارات القديمة الفرعونية والبابلية ونقل العالم إلى مستوى جديد ولد ونشأ هنا،
ثم الصراعات التي مرت بين الممالك المختلفة منذ الدولة اليونانية والرومانية والعثمانية وتبادل الجميع السيطرة عليها حتى استقلت أخيرا عام 1993، العالم في حالة حراك مستمر لا ينتهي، ويبدو أننا نمر بحالة جديدة من التغييرات.
توقفوا على جانب الطريق ليأخذوا قسطا من الراحة ويتناولوا طعاما بسيطا، وصلت إليهم مجموعة من السيارات القديمة وعرض عليهم راكبوها توصيلهم في وقت أسرع مقابل مبلغ مالي بسيط، ركبوا جميعا اختصارا للوقت والمجهود، سلكت السيارات طريقا جانبيا بحجة الإختصار، وبعد ما يقارب الساعة من السير في طريق شديد الوعورة، توقفت السيارات فجأة، ثم خرج من كل سيارة مسلح وطلب من الجميع أن ينزلوا ويتركوا كل ما معهم، اعترض أحدهم فكان جزاؤه كالعادة طلقة في الرأس أنهت حياته وأوقفتهم جميعا بلا حراك.
فتشوهم ذاتيا وأخذوا كل ما معهم من مال وحلي وساعات وهواتف وكل ما يمكن حمله.
– لم تمت إذن يا فيليب، لا زال رجالك يعيثون في الأرض فسادا ويقطعون الطرق على القوافل ويهاجمون الآمنين ويسرقون العابرين، لم تؤثر فيهم الديانات السماوية ولم تهذبهم الحروب الكثيرة ولم تتحرك قلوبهم رأفة بحالنا الذي لا يخفى على أحد في العالم، الشيئ الوحيد المختلف أنهم لم يأسرونا ليبيعونا عبيدا في أقرب سوق للنخاسة، ولو أن زعماءنا قد استعبدونا في سجن كبير وباعونا لنزواتهم وحرصهم المريض على مقعد الحكم، اضطرونا إلى التشرد فأصبحنا عالة على البلاد يهاجمنا حقراؤها وتطاردنا أنظمتها.
استمر في تأملاته المهزومة وهو يصاحب من معه في طريق العودة إلى الدرب الرئيسي الذي انحرفت سيارات العصابة عنه، فقدوا نصف يوم على الأقل وكل ما يملكون، القادم يزداد غموضا ودائرة اليأس تُحكم حول الحلم المريض الذي نجا من مذبحة الوطن.

يتبع

اظهر المزيد

نهاد كراره

نهاد كراره محاسبة وكاتبة مصرية صدر لها كتب مشتركة مثل بوح الصحبة و قطرات مطر وكتب فردية نيسان الوجع مدن الفراشات الدمشوري وآخر حدود الحلم نشرة العديد من المقالات علي المواقع الالكترونية المختلفة كموقع قل مقالات اجتماعية وبعض القصائد العمودية والعامية علي المواقع الأخرى صدر لها عدد من القصص في جرائد مختلفة منها صوت الشعب و جريدة القصة وغيرها عضو مجلس إدارة لموقع الصحبة نيوز مدير تنفيذي لدار الصحبة الثقافية للنشررالإلكتروني
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى