روايات و قصص

البديل

محمود لطفي

البديل

قصة قصيرة

قلم / محمود لطفي

أصيب مدير شركتنا بكسر في قدمه ومن ثم قرر الأطباء منحه أجازة لمدة شهر سوف تحتاج خلاله الشركة لمن يقوم بدوره ويسير الأعمال لحين عودته .اجتمع بنا نائبه وفاجئنا بأنه لن يستطيع القيام بذلك الدور لظروف خاصة وأن علينا نحن الثلاثة اختيار واحدا منا لأداء تلك المهمة .

نظرات من الدهشة والحيرة دارت بين ثلاثتنا نحن الأصدقاء الثلاثة التحقنا بالشركة في نفس الوقت لا يجيد العمل الإدارى بل لا نجيد سوى تنفيذ التعليمات كلوحة مفاتيح صماء لا ندرك سوى مبدأ واحد عاش الملك مات الملك لم يدر أيا منا ماذا يفعل إذا ما مات الملك وبالتالي لم ندر من فينا يصلح لدور الملك ولو بشكل مؤقت.

لم نتزوج فضلنا حياة الحرية كل منا قد بلغ الأربعين ولا يجيد سوى صرف ماله على شتى أنواع الكيف إن جاز لي التعبير باستثناء شادى الذى لم يكن يقيم أية علاقات نسائية .. فليكن سيصبح شادي المدير المؤقت فهو الأمثل إذ أنه الأكثر تفرغا .

بينما كنت أرتشف كوبا من الشاى وأنتظر دورى في لعبة الطاولة استدعى شادي النادل كي يعدل له حجر الأرجيلة التي يفضل تدخينها علق باسم ساخرا كعادته “ما رأيك يا شادى لو أعاد ظبطها لك كإعادة ظبط المصنع ؟” كنت غارقا في الأفكار التى تتداعى بينما نثر شادي مبتسما بضعة قطرات من الماء في وجه باسم حتى يكف عن هزله , وعاد الصمت يطبق علينا رغم الضجيج من حولنا من صخب الزبائن وعويل السيارات ,قررت القاء حجر في الماء الراكد وقلت :”من منكما سيكون مديري الشهرالحالي لحين عودة أستاذ عبد البر؟”

أجاب باسم مندفعا بسخرية :” ومن سوى ميار سكرتير المدير يصلح للقيام بدوره؟”ابتسمنا بدورنا بينما استطرد هو: إنها أقربنا للمدير وخزينة أسراره وصدره الحنون وصاحبة أجمل …..” قطع شادي استرسال باسم قائلا:” دعك من السخرية أعتقد أنك الأنسب لهذا الدور فأنت أكبرنا سنا وأقربنا من ميار .”

أجبته :” أهي مزحة يا شادى ؟” رد بجدية :” لا , أنا أعلم من مصدر موثوق أنك كنت اختيارها شخصيا لهذا المنصب.”

اندهشت وأشرت إلى نفسي متسائلا :” أنا؟”

رد شادي: ” أجل أنت يا ملاك يا ذا الأجنحة”

أجبته بجدية :”. شادي هل تمزح أنت تعلم أن ميار كانت زميلة هدى شقيقتي فقط ولم يحدث بيني وبينها شيئا أبدا

رد شادي ساخرا:”. انظر يا باسم لقد احمرت أذنيه”

قال باسم : “لا تخفي يا سراج يا زير النساء.

فأجبته:” أنا زير نساء يا بير نساء

ضحكنا أنا و باسم بينما بدت ملامح الجدية على وجه شادي الذي قرر فجأة أن يتركنا ويذهب حاولنا إقناعه دون جدوى ولأول مرة يترك حسابه ويرحل دون وداع

.مضت نحو ربع الساعة على رحيل شادي فاستقلينا سيارة باسم وأخرج باسم سيجارتين حشيش من تابلوه سيارته وانحرفنا في شارع جانبي مظلم وأشعلنا السيجارتين و أدار باسم مذياع سيارته وأخذنا ندخن السجائر على موسيقى أغنية عبد الحليم قارئة الفنجان وباسم يسخر قائلا :”قارئة الحشيش أفضل.

دوى صوت هاتف باسم الخلوي لكنه لم يجيب الاتصال  حتى أنهى سيجارته وحاول تجميع قواه لكن رنين هاتفه عاود مرة أخرى صارخا يطلب الإجابة “إنه شادي ” نطقها باسم في غير اكتراث لكن ما إن وضع الهاتف على أذنه وسمع صوتالمتصل حتى انتفض ذعرا فلم يكن المتصل شادي بل كان أحد المارة يتصل ليقول:” الدوام لله صاحب الهاتف تعرض لحادث سير ومات قبل وصوله للمستشفى و…. لم نسمع ماذا قيل بعد ذلك أو هكذا اعتقدنا أسرعنا بسيارة باسم حيث المستشفى ومن هول المفاجأة بدا وكأن أثر سيجارة الحشيش قد زال وكأننا في أكثر لحظات حياتنا استيعابا . أنهار من الدموع وأسبوع حالك الظلمة مر علينا نتقابل في الشركة لنعمل كالحواسب الآلية ونتقابل بالمقهى لنتحدث عن شادي ونتذكره فنبكي أو نضحك أ بالأحرى تمتزج دموعنا بأشباح ضحكات.

 قررنا الانتظام في الصلاة ومحاولة ترك الحشيش وإحياء ذكرى شادي بالذكر وقراءة القرآن لم يستمر الوضع طويلا أسبوع اخر وعدنا تدريجيا بل إن حزننا على شادي جعلنا نزيد من الجرعة. لا يزال نائب المدير في إصراره على أن يكون أحد منا هو المدير المؤقت ولا نزال أنا وباسم نتهرب من تلك المهمة تمر الأيام سريعة إلا حين نتذكر شادي تكاد عجلتها أن تتوقف بل تكاد تسمع صوت احتكاك عجلتها بالأرض وتناثر ترابها حولك.

يجلس كلانا على المقهى ولأول مرة يجلس معنا أستاذ محجوب نائب المدير يشرب فنجانا من القهوة خالية السكر يحذرنا من استهتارنا وينبهنا لضرورة الخروج من عباءة الأحزان وحتمية اختيار أيا منا للمهمة التي قد تطول لتصبح شهرين بعد آخر تقرير طبي عن حالة المدير وأنه في حالة تقاعسنا عن قبول المهمة ستكون العواقب وخيمة حين عودة المدير وحذرنا قائلا ولا تنسوا صلة قرابته برئيس مجلس الإدارة.

كعادتنا في الشارع الجانبي المظلم ندخن سجائر الحشيش أنا وباسم ولكن هذه المرة وكأننا نلعب يوجا ندخن دون أن نتبادل النكات او تلاعب النميمة ألسنتنا او حتى نتذكر شادي فقط ندخن للهروب ولكن نلتقي في نقطة نذوب فيها ونمتزج لنصبح شخصا واحدا أو شخصا ودخان سيجارة.

في اليوم التالي قررت مقابلة نائب المدير منفردا وتم ذلك في المقهى لكني تفاجأت بوجود باسم في نفس الموعد والمكان وهنا قال نائب المدير لقد اختار كل منكما مقابلتي منفردا وفي نفس التوقيت وبالطبع ليخبرني بقبوله للمهمة دون أن يدري الآخر حاولنا قطع حديثه وهو يستطرد كنت أعتقد أن صداقتكما أقوى ولكن المبلغ المالي لتلك المهمة تضاعف والمهمة قد تكون دائمة فلقد فقد مديرنا القدرة على الحركة تماما .

هنا حاول باسم اعتراضه قائلا :”سراج أفضل مني و

قاطعه أستاذ محجوب:”  كف عن المثالية المزيفة”

 وقلت :”أنا طلبت مقابلتك لأقول أن باسم هو الأفضل و.. ” قاطع استاذ محجوب حديثي قائلا :” لا اتمنى ان يكون مديري القادم كذاب وأنتما الآن في نظري كاذبان كفا عن المثالية وسيسافر كلا منكما في مهمة  لفرع من فروع الشركة أحدكما في الغردقة والآخر في أسوان وحاولا أن تستقرا على رأي قبل فوات الاوان.

فر كلانا لوجهته وفي داخل كلينا قرار أن الآخر هو الأفضل  وأن وجود صديقه كمدير له يضمن عدة ضمانات منها التخلص من نائب المدير السمج بينما تعج رأسي بالأفكار جائتني مكالمة من ميار السكرتيرة تؤكد على أحقيتي بالمنصب نظرا لكفاءتي بالعمل وأن باسم معروف عنه أنه زير نساء و…..إلخ استمعت لحديثها دونما اكتراث وغفوت أمام التلفاز لدقائق أتاني خلالها ما يشبه الكابوس إذ شاهدت شادي يمسك سيف ويقطع رقابنا أنا وباسم فقمت فزعا ممسكا رقبتي كأني أطمئن نفسي أنها مازالت متواجدة . مر أسبوع المهمة وأنا في طريق العودة حاولت التحدث لباسم لترتيب جلسة مسائية لكن هاتفه لم يجيب أكثر من عشر مرات بداية الأمر ظننت الأمر طبيعي ثم ساورني القلق ,كررت الاتصال عدة مرات دون جدوى ثم انغلق الهاتف نظرت لساعتي انتصف الليل ولكن ماذا يمنعني من زيارته لقد اشتقت إليه ثم إن كلينا أعزب.

رغم برودة الطقس قررت الذهاب إلى باسم وقبل أن أدخل بنايته استقبلني الغفير بابتسامته البلهاء مناديا باسمي “أهلا سراج بيه كيف حالك؟”

 قبل أن أطمئنه على حالي سألته في جزع عن حال باسم فقال :”أغلق شقته و سافر مع عروسه لقضاء شهر العسل بارك الله له والعقبى لك الوحدة صعبة “وتعجب إذ كيف لا أعرف وعروسه أيضا تعمل معنا بالشركة و  قبل أن يكمل ثرثرته  قلت محدثا نفسي:” اسمها ميار سكرتيرة المدير القديم والبديل الحديث أو مديري الحديث”

 بعد عودة العريس أو المدير للعمل كان أول قراراته نقلي لفرع اسوان مع ترقيتي لدرجة مدير الفرع وما كان يصبر قلبي شيئا واحدا هو أن أسوان لازال أهلها يعيشوا على الفطرة وأنني لن أعين بالفرع من يحمل اسم باسم وأن سكرتيرتي لن تحمل يوما اسم ميار.

اظهر المزيد

نافذ سمان

كاتب وروائي سوري الأصل يقيم في النرويج له خمس أعمال منفردة ( مجموعة قصصية ،ثلاث روايات وديوان نثري ) إضافة لثلاث كتب جماعية. له عديد المساهمات في المنظمات الانسانية والتربوية. كاتب مقالات رأي وصحفي في العديد من الصحف والصفحات العربية والنرويجية. صحفي لدى جريدة فيورنجن النرويجية.درس الصحة النفسية للطفل لدى جامعة هارفرد 2017. مجاز ليسانس في الحقوق 1999 وعمل كرئيس لقسم الجباية في سوريا لحوالي 11 عاماً.
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى