العقيدة و الدين

استدراكاتٌ على الفقه الإسلامي

بقلم : حسام الدين عوض

قال لي: لماذا تنتصر للمذاهب الإسلامية التقليدية؟
ألم يحن أوان الثورة على كل مافي تراثنا الإسلامي بهدف إستحداث مذهبٍ جديد بدلاً من الـ (عك) الموجود في كتب الفقهاء والذين يفصل بيننا وبينهم أكثر من 1000 سنة؟ كلُّ مذاهب المسلمين كانت ولا تزال تقول بقتل من يترك الإسلام مع أن ذلك ينافي قيمة مهمة هي حرية العقيدة ، وكل مذاهب المسلمين تقريبا تبرر للحاكم المستبد ما لم يظهر كفرا بواحا على الرغم من أن ذلك ينافي قيمةً مهمة هي العدالة ، وكل مذاهب المسلمين تقريباً لا تجيز للمرأة وغير المسلم تولى المناصب العامة مع كون ذلك ينافي قيمة مهمة هي المساواة ، وكل مذاهب المسلمين تقريبا تؤمن بكلام من قبيل أنّ الأئمة من قريش ، وإن لقيتم أحداً من أهل الكتاب في طريق فاضطروه إلى أضيقه ، ومقاتلة جميع الناس حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية ، ناهيك عن الحكم على فرق المسلمين بالضلال ماعدا فرقة واحدة ، وتحريم سائر أنواع الفنون ، ثم خذ مثالا على ذلك حركة طالبان ، حركة حنفية لاتتبع الوهابية ولا الحنابلة ومع ذلك هل اختلف حكمهم عن داعش كثيراً ؟!

قلت له: اسمح لي أن أعلّق على ما أوردته من إشكالاتٍ ، ولكن دعني أولاً أبدأ بهذه المقدمة:
أولاً: أنا لا أدعو لمخاصمة التراث المذهبي وإنما أدعو لانتقاده! وإلاّ فالمذاهب الأربعة قد حفظت الأمة وحافظت على وحدتها وتماسكها وتمسكها بجذورها وأصولها ، ولولا أنّها أربعة مذاهب لصارت مائة! ولرأينا الأمة اليوم وقد انقسمت إلى آلاف الآراء والتصورات سواء في المسائل العلمية (الاعتقادية) أو العملية (الفقهية) كما نرى ذلك في أمم أخرى (تَذكرُ النصوص الهندوسية بأنه يوجد حوالي 33 كرور أو 330 مليون إله) !!

ثانياً: ليس هناك إشكال واحد في أن نجعل من سلفنا الصالح نماذج وقدوات بحيث يسترشد بهم شباب أمتنا ، السينما الأميريكية نفسها تصطنع أبطالاً افتراضيين وتخترع لهم بطولات زائفة لكي يبثوا الأمل في نفوس شبابهم ، فلماذا يريد بعضنا تجريد أمتنا من كل صلة لها بالتاريخ؟ الأمة التي تنقطع عن تاريخها بدعوى التخلص من الماضوية هي أمة منبتّةُ الجذور لاتريد أن تعلم عن تاريخها أو أن تتعلم منه شيئاً ، والحكمة تقول: “من وعى التاريخ في صدره أضاف أعماراً إلى عمره”.

ثالثاً: من المعلوم أن الفقه الإسلامي جهدُ بشري أبدعه فقهاء المسلمين الأوائل وعلى رأسهم الأئمة الأربعة رحمهم الله ، وقد وقع الغلط عند صنفين من الناس بخصوصه ، فأما الصنف الأول فقد مارس الغلواء حين جعل الفقه بمنزلة الشريعة الربانية فنسب العصمة والقداسة للأئمة وهم منها برءاء ، وأما الفريق الثاني فقد لفظ الفقه كله أو جلّه وتنقص من قدر الأئمة الأعلام وشنّع عليهم غاية التشنيع فنسب التحريف والتزييف لأول هذه الأمة على خلاف ماتقتضيه قواعد العدل والإنصاف ، والحق أن الأئمة أنفسهم لم يطلبوا من الناس أن يتعصبوا لأقوالهم ، فليس يُعرفُ الحق بالرجال ، والقاعدة عندنا نحن أهل السنة والجماعة أن كل أحدٍ يؤخذُ من قوله ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم ، فهاهو الشافعي رحمه الله يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ، وهاهو أبو حنيفة رحمه الله يقول: إذا وجدتُم كلامي يخالف كلام رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فخُذوا بكلام رسولِ الله واضربوا بكلامي عُرْضَ الحائط.
وتأسيساً على تلك المقدمة الضرورية وفي ضوئها ، أناقشُ مستعيناً بالله تلك النقاط الإشكالية التي أوردها الصديق الكريم وأجيب عليها واحدة تلو الأخرى ، سائلاً الله عز وجل أن يهدينا لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنه

1- قتل المرتد:
أشكل على بعض الناس في زمننا لأنَّ المذاهب الفقهية لم تتعرض لموضوع الردة باعتباره أمراً يتعلّقُ بحرية العقيدة ، فلم تكن هذه صورة الردة في زمنهم الذي اتسم بأجواء الصراعات العسكرية على أساسٍ ديني!
إنما كانت الردة ضرباً من ضروب الخروج على سلطان الدولة ، ونوعاً من أنواع التمرد على جماعة المسلمين ، وبالتالي فقد نظر الفقهاء للردة من هذه الزاوية وليس من زاوية حرية الاعتقاد! أما بعضُنا فقد اقتطع بعض ما في كتب الأولين وأسقطها على واقع مختلف دون أن يدرك مرادهم ، ثم إنَّ من أئمة التابعين من قرر أن المرتد لا يقتل أصلاً بل يستتاب مطلقاً ، وهما إبراهيم النخعي وسفيان الثوري رحمهما الله.
وينبغي التمييز هنا بين من ارتد لشبهة عرضت له ، أو ارتد ولزم داره وظل في شأنه ، وبين “التارك لدينه المفارق للجماعة” وهو من انضم إلى أعداء المسلمين ، في الحرب على الإسلام ، سواء بالسلاح أو الدعاية ، فهذا ينطبق عليه وضع “تهديد السلم الأهلي” أو “ارتكاب جريمة الخيانة العظمى” كما في القوانين الحديثة.
وأنا دائماً أقول إن من أخطر الأمور التي أصابت العقل المسلم المعاصر بلوثة ، استحضار نصوص وأقوال متعلقة بظروف معينة ، أو جاءت في سياقات تاريخية أخرى ، ثم إسقاطها على واقعنا! هذا يؤدي لظلمهم والتجني الشديد عليهم ، ثم يؤدي إلى سوء الفهم والتطبيق!

2- إطاعة الحاكم المستبد:
أئمة السلف كانوا ضد استبداد الحكام ، ولكنهم كانوا أيضاً ضد استبداد الرعية ، لأن الاستبداد لايأتي من طرف الحاكم فقط ، بل قد يأتي من طرف بعض رعيته أيضاً ، وبشكل أوضح ، قد يتصور بعض الرعية أن الحاكم ظالم مثلاً ، أو أنه يحابي بعض القبائل على حساب البعض مثلما وقع مع الخليفة الراشد الثالث عثمان ابن عفان نفسه ، وبالتالي يقررون الخروج عليه ، ويقع بسبب هذا القرار الكارثي خسائر في الأنفس والأرواح قد كان يمكن تجنبها! ولهذا كان ضابط الخروج على الحاكم الظالم ، رؤية الكفر البواح! وليس مجرد تصور الظلم الواقع منه ، فالناس تختلف في تقدير هذا الظلم
وهذا ليس تبريراً للظلم أو الاستبداد ، وإنما تغليبُ أهون الشرين وأخف الضررين . فخروج الناس (أو بعض الناس) على كل حاكم لا يرضون حكمه يؤدي إلى مفاسد لا تخفى على أحد. وقد عاصر هؤلاء الفقهاء فتناً كثيرة. ورأوا أن الصبر على بعض الظلم أهون من الفتنة العامة. التي تهدر فيها الدماء وتضيع فيها الحقوق.

3- ولاية المرأة وغير المسلم:
لعلك تقصد بهذا (الإمامة العظمى) ، فهذه هي المسألة الوحيدة التي انعقد عليها الإجماع فهذه الولاية وفق زمنهم تتعلق بحراسة الدين وسياسة الدنيا وهو وظيفةٌ لاتناسب طبيعة المرأة ولاتجوز لغير المسلم ، أمّا في زمننا فقد تغير كلُّ هذا وصارت الأمم القائمة على أساس الولاء للدين أو للملك دولاً قطريةً تحكمها دساتير وضعية وتدافع عن حدودها الجغرافية جيوشٌ محلية ، وبالتالي وجب إعادةُ النظر في هذه المسألة برمتها ، وأمّا القضاء في زمنهم فقد كان موقوفاً على القضاء الشرعي فكان لا بد أن يكون القاضي مسلماً عالماً فقيها ، قادرا على استنباط الأحكام . فلما تطورت المجتمعات وصارت القوانين مدنية لم يعد الأمرُ كما كان في السابق! يعد هذا هو دور القاضي في عصرنا هذا بعد وضع القوانين التي تضبط عمل القاضي. ولهذا أفتى كثيرٌ من المعاصرين أنه يجوز لغير المسلم أن يتولى رئاسة الدولة ، نظراً لتغير وضع الرئيس في عصرنا ، وتغير صلاحياته وبالتالي تتغير شروط المنصب.

4- معاملة غير المسلم:
اضطرار غير المسلمين إلى أضيق الطريق ، هو قول أقل الفقهاء ويقابله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من آذى ذميا كنت خصيمه يوم القيامة”. وهذه القضية تم التركيز عليها في عصر النزاعات الدينية ، فكانت تلك الأقوال مرتبطة بظروف وملابسات خاصة. مثلما صارت معاداة اليهود عامة في زمننا هذا لارتباط ذلك باحتلال أرض فلسطين. مع أنهم عاشوا قبلها قروناً في سلام وأمن في بلاد المسلمين ، ومع أنّه لاينبغي مؤاخذة جميع اليهود بما فعله الصهاينة منهم ، وهذا ماتقتضيه قواعدُ العدل والإنصاف.
وهذا ينطبقُ أيضاً على المسائل الأخرى التي تفضلت بذكرها كفكرة الأئمة من قريش أو مقاتلة جميع الناس حتى يدفعوا الجزية ، وهي أخطاء في فهم وتفسير النصوص الشرعية ، وإلا فالحديث (أمرت أن أقاتل الناس) يفهم منه ضرورة وقف القتال عند إسلام العدو ، وليس استمرار الحرب إلى حين إسلامه!! وإلا فقد صالح المسلمون عبر الأزمان أمما مجاورةً ، دون جزية أو إسلام.

5- ضلال فرق المسلمين:
بالنسبة لضلال فرق المسلمين ، فقد ناقشتُ هاته المسألة في موضوعٍ أخر منشور لي على هذه الصفحات ، فراجعه غير مأمور ، والخلاصةُ أنّ الحديث معلول ، ولو افترضنا -جدلاً- صحته ، فالضلال لايعني الوعيد بدخول النار ، إنما معناه أتهم فارقوا الطريق الصحيح ، ويظلُّ أتباع هذه الفرق من أهل القبلة.

6- الفنون:
لم يتعرض الفقهاء في هذا الباب بالقول بالتحريم إلا في حال المعازف والنحت. أمّا الحضارة الإسلامية فقد أنتجت فن الشعر وفن العمارة وغيرها، وبالتالي فتعميم القول على الفنون تعميم لا يصح ابتداءً.
فأمّا الغناء والموسيقى فهي أمر خلافي منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم. واستمر بعدهم. وأمّا زعمُ البعض أنها مسألةٌ إجماعية هو زعمٌ غير صحيح. وأمّا تشدد بعض الأئمة في هاته المسألة فربما يرجع إلى اختلاف اهتماماتهم عن اهتماماتنا ، ولدينا تراثٌ ضخمٌ يناقش هاته المسألة باستفاضة ويعرضُ الآراء المختلفة حولها ، أمّا مدرسة نجد السلفية فقد تركت كل هذا ، وأنفقت ببذخ على تراث بعض فقهاء المذهب الحنبلي وخصوصاً ابن تيمية وابن القيم ، فلم يصل إلى أيدينا من الكتب سوى أقوالهما فقط رغم أن التراث يزخرُ بآلاف المقالات والأفكار التي خالفت ما انتهيا إليه.

7- فيما يتعلق بحركة طالبان في مقابل داعش ، فالمسألة هنا ليست في أن تكون حنفياً أو حنبلياً ، المسألة في أن تكون متعصباً وأنت تبحث في صفحات التراث بطريقة انتقائية لتجد ما يناسبك من أقوال فقهاء هذا المذهب أو ذاك ، وسوف تجد بكل تأكيد لأن كثيراً من فقهاء المذاهب الأربعة تأثروا ببيئتهم ، أو بثقافاتهم ، أو ببعض النوازع الشخصية أو القبلية التي لايسلم منها إنسان ، ستجد فقهاء ينتمون إلى المذهب المالكي وهم أكثر تشدداً في عشرات القضايا من فقهاء ينتمون إلى المذهب الحنبلي وهكذا
الإشكالُ ليس في المذهب أو التمذهب ، وإنما في تأثر المتمذهب ببعض الظروف والعوامل التي قد تؤدي لسلوكه مسلكاً متشدداً بحيث يسعى لفرض تصوراته وآرائه على غيره باعتبارها الحق الذي ليس بعده إلا الضلال ، ولذلك فالأمة في حاجة ماسة إلى مراجعة تراثها ونقده وتفنيد مافيه من المثالب والمعايب والأخطاء ، وهذا يفعله كثيرٌ من علمائنا وفقهائنا المعاصرين وإن كنا لانزال بحاجةٍ إلى المزيد.

اظهر المزيد

حسام الدين عوض

مهندس مصري وكاتب وباحث في الشؤون الإسلامية ، حاصل على بكالريوس الهندسة ، ماجستير إدارة الأعمال ، دبلوم الدراسات العليا في الشريعة الإسلامية
زر الذهاب إلى الأعلى