
الحلقة الثانية
” كثيرون مازالوا نائمين ، و بحاجة إلى من يوقظهم “
انطوان دي سانت اكزوبري
لمتابعة الحلقة الأولى https://www.sohbanews.com/إنّهم-يُخفون-شيئاً-نافذ-سمان/
ابتلعت “كابي” درجات السلم الرخاميّة بنهم ، كانت أفكارها تلاحقها كالرصاصة . وحدهُ خوفها كان يُطبق عل أنفاسها ، فيجعل رؤية باب شقة عمّها أيمن ، والطرق عليه ، غاية لا تساويها غاية.
كان النوم يعشش بعينيّ الدكتور أيمن حين سحب باب شقته للداخل، ليُفاجأ بارتماء ابنة أخيه الشابّة على الأرض، مُسلمة قواها وتفكيرها للريح.
لم يكن من السهل عليه إعادة الوعي لكابي ، أما إعادة التوازن إليها ، فقد كان أقرب إلى المستحيل.
اصطفّت العائلة الهلعة حول كابي. الدكتور أيمن الطبيب البشريّ ، وزوجته المُحاميّة رندا ، وابنهما ، الطالب المراهق .
كانت كابي ، طالبة الدراسات العُليا في كلية الآداب في جامعة دمشق ، تهذي بأشياء لم تزِد إلا من الهلع المُرتسم على وجوه العائلة الموزّعة في الصالة ، التي هدرت فيها آلات التدفئة ، واصطفّت فيها كؤوس الليمونادا على الطاولة ، إلى جانب فوارغ لحُقنة مُهدّئة سكنت جانب كابي التي بدأت تخبو أعصابها المحترقة .
عندما بدأت كابي بالكفّ عن الضغط على أيدي عمّها ، مُبشّرة بدخول السائل المُهدّئ إلى عروقها طارداً الارتياع بالاطمئنان ، كانت السيّدة رندا تحضّر الفطور لعائلتها ، بعد أن داهمهم الصباح وهم يحيطون بجسد كابي بدفء أسريّ لذيذ .
أعلنت كابي بأنه ليس هناك من شرّ .
_ ” إنّها نوبة خوف طفوليّ مُختَزَن ، و حنين إلى حضن دافئ . ”
فسّرت كابي للعائلة ، الشيء الذي جعل كلّ من السيّدة رندا وابنها ينطلقان إلى يومهما باطمئنان.
إلا أنّ جملتها التي قصدت بها إطفاء هلع العائلة الفضوليّ ، لم تزِد من نيران الدكتور أيمن إلا التهاباً ، فسارع بعد خروج العائلة إلى هزّها سائِلاً عن هذه النوبات التي تكرّرت ، مُطالِباً بحقّه الشرعيّ بمعرفة ما يدور داخلها ، و داخل فيلتها وأختها ، الموروثة عن أخيه ، فلتة الفيزياء العبقريّ.
ثَقُلَ الحِملُ على الشابّة اليافعة ، فقرّرت البوح لأحد ، أيّ أحد ، حتى لو كان هذا الأحد ، هو عمّها الذي لا يملك علاقة جيّدة مع والدتها ، المُختفية منذ سنين .
_ ” عمّاه ، تعلم ، ككلّ من يعرفنا عن قرب ، ذاك التواصل الروحيّ العميق جدّاً الذي يصلني بالجهاز العصبيّ لأختي التوأم . والذي يجعل من المستحيل على إحدانا أن تفكّر بشيء ، أيّ شيء ، بمعزل عن الأخرى . إننا نكاد نحلم بنفس الأحلام ، ونفكّر بنفس الطريقة ، ولنا نفس الطريقة في تحليل الأشياء والإحساس بها. بالأغاني ، بأنواع الموسيقى ، بالأصوات ، بالفنّ ، بالشِعر ، بالحكايا، بالملابس ، بالألوان .
نحن نُحبّ ونفضّل ، و نحسّ بنفس الأشياء .لا يتعلق ذلك بالعواطف ، من حب وكره، ولا بالحالات النفسيّة من قلق ، وخوف فقط ، بل يتعدّى ذلك إلى الإحساس بالألم . والشيء المُخيف يا عمّي ، هو ، الإحساس باللذّة .
توقّفت كابي عن الكلام ، وكأنّها تروي لنفسها حكاية أخرى منع وجود عمّها أمامها صوتها من التعبير عن نفسه .
تجاوز العم بخبرة الطبيب جملة كابي الأخيرة ، ودَفَعَها لتكمِلة حديثها ، إلا أنّها ارتبكت ، وعلى وجهها احمرار غريب .
كانت الكلمات تتدافع على مفارق شفتها ، إلا أنها كانت تموت هناك .
فقرّرت أن ترمي بالموضوع بعيداً :
_ ” أتعرف صورة أمّي المحفورة في صدر الصالون الأرضيّ في الفيلا خاصّتنا ؟ ”
رعشة داهمت الدكتور أيمن عند سماعه كلام كابي ، كان كمن اجتاحه شبح ما ، وسرعان ما انتزع منديلاً ورقياً ، مسح به حُبيبات العرق المُرتجفة النابعة من أنحاء وجهه .
تابعت كابي كلامها دون انتباه لارتجافه :
_ ” تلك الصورة ، المحفورة في رخام الجدار ، بدأتُ وأختي نُحسّ بأنّ ملامحها بدأت تشبهني ، أقصد تشبهنا بشكلّ تام .”
تمتم الدكتور أيمن كلمات ثم قال قاذفاً بحجارته لمكان آخر ، هارباً من خانة اليَك التي قاده إليها حديث كابي :
_ ” يا لخيالك يا شاعرتي الصغيرة ! أتفتقدين أمّك يا حلوة ؟”
تجاوزت كابي بذكاء تسخيف عمّها الذي اعتادت عليه و أكملت :
_ ” أعرف ، يا عمي ، أنكم لا تكنّون الكثير من الودّ لوالدتي الأوربيّة التي اختطفت منكم عبقريّ العائلة ، و قاطعتموها لفتراتٍ اختلفت حسب تفهّمكم لمشاعر والدي ، ذاك الفيزيائيّ الأعجوبة الذي غادركم لأوروبا ذكياً جداً ، وعاد إليكم يحمل من هناك عبقريّته المتنامية .
قُتل بظروف غامضة ، ادّعيتم بأن الموساد فعلها ، ثم فرّت والدتي لسبب الكلّ يجهله ، وطعنتم بشرفها ومبادئها . لكني الآن أدعوك لألاّ تظلمني كما سبق و حدث مع والدتي .
أقسم أنّي لستُ مجنونة ، و أن ما سأرويه لك الآن ليس بخيالات أو أوهام ، و صدّقني فإنّ ما ستسمعه منّي ليست إحدى القصص التي أكتبها .
سأحدّثك عن شيء عشته وأعيشه ، و تأكدتُ تماماً من صحته ، وفكّرت ملايين المرّات قبل أن أروي كلامي هذا لأحد ما . ”
حاولت كابي قدر استطاعتها إضفاء المصداقيّة على ما ستبوح به لعمها ، كانت متيقّنة أن ما ستقوله لن يواجه بترحاب ، و كانت تتوجّس خيفة من ارتكاسة عمّها ، الذي سبق و تخلّى عن بنات أخيه المتوفى ببرود تام .
تنهّدت كابي مٌطلقة زفرة أحرقت تفاصيل وجه العم أيمن الذي ازداد ارتباكاً .
لوهلة ، أحسّ أيمن بأنّ صرير الباب الصدئ ، الذي سبق و دفن خلفه كلّ أحداث الماضي ، قد عاود صراخه ، ذاك الصراخ الذي كان طيلة السنين الماضية يُحارب زياراته الليليّة بكلّ أنواع الحبوب المهدّئة .
_ ” منذ زمن يا عمّاه ، والشكّ يسكنني، أحسّ بأنّ أحداً ما يُراقبني ، يعيش معي و أختي. عندما صارحتُ أختي ستيف بذلك قالت لي أنّها تُحس بنفس الشيء ، ربما كان ذلك الشعور ناتج عن وجود قوات الحراسة التي تترأس شارعنا ، إلا أنّه كان تفسير واه ، فالحراسة موجودة منذ عودة أبي للوطن ، وتلقّيه بعض التهديدات التي كانت تريد دفعه للمغادرة والسكن ببلد آخر ، يُوفّر له ولعائلته ظروف عمل أفضل – كما كانوا يدّعون – .
شيء آخر بدأ يقلقني وأختي، كان التغيّر المفاجئ بملامح الصورة المحفورة في رخام الصالون ،والتي تُروى عنها قصص كثيرة ، تلك الصورة قد بدأت أخيراً تشابهني وأختي ، بعد أن ظلت لأجيال تصوّر تمثالاً نصفياً لوالدتي . إلا أن الشيء الذي اقتلعني البارحة من عقلانيتي .. ”
أمسكت كابي عن الكلام ، عاجزة عن تناول السندويشة التي أعدّها لها عمّها ، لتقي معدتها من التخرّشات التي قد تسبّبها جرعات الليمون الكثيفة التي وجب كرعها لتعيد لكابي بعض الاستقرار .
لم يكن اضطراب أيمن يسمح له حتى بالطلب من ابنة أخيه اليافعة متابعة حديثها .
رابط الحلقة التالية https://www.sohbanews.com/إنهم-يُخفون-شيئاً-نافذ-سمان-3/