
لمتابعة الحلقة السابقة https://www.sohbanews.com/إنّهم-يُخفون-شيئاً-نافذ-سمان-2/
طلب الدكتور أيمن من كابي أن تنام ، بعد أن التهم المُهدّئ الجاري بالعروق آخر قلاع يقظتها . وفعلاً ، تلحّفت كابي بتعرّقها ، ونامت تاركة عمها مُثبّت على مقعده ، يأكلّ الهلع من وقاره المتشبّع بالشيب الذي يحيط بشعره الكثيف .
فجأة اقتلعته من مكانه رنّات الهاتف .
كانت ستيف على الطرف المقابل تتحدّث بإرهاق وعصبيّة . كانت ترمي كلماتها بسرعة وتشتّت . سألت عن كابي ولم تسأل عن عمّها وأخباره . دعاها العم لزيارته ورؤية كابي ، فأقرّت بحاجتها لذلك .
أعاد الدكتور أيمن السماعة إلى مكانها وارتمى على الأريكة . ها هو ذا الماضي الذي هرب منه يعود ليلحقه بعد كلّ هذا العمر . يومها ، قاطع أخاه بعد زواجه من تلك الأوربيّة المُتَنَمّرة ، كما فعلت كلّ العائلة ، لكنه و بعد حين أعاد علاقته به ، وإن كان بفتور . في تلك الأثناء ظنّ الكلّ أن الخيط الذي يفصل العبقريّة عن الجنون عند أخيه قد انقطع . قالوا انه قد جنّ ،إلا أنّ هذا لم يؤكّد رسميّاً ، وسرعان ما قُتل . رحل أخوه عن الحياة بعد حوادث غريبة لا تُصدّق . لم يكن لأحد أن يعرف من فعلها ؟ وكيف ؟
لم تُظهر التحقيقات الرسميّة أيّ شيء ، و كان اتّهام الجهات الرسميّة للموساد هو آخر فصول الحكاية . تغيّرت حالة ماريّا – زوجة أخيه – من بعد الحادثة . كانت بحالة نفسيّة سيّئة جداً ، فقد قُتل زوجها وصديقها وحبيبها . اختفى فجأة من حياتها البروفسور مالك قبل أن يصلها تماماً بمجتمعها الجديد . انفردت بعدها ماريّا بالقلعة التي قدّمها مالك عربون حبّه لها . بقي لها من الدنيا ، توأم بنات ستيفاني و كابرييل . أرادت أن تربّيهما على طريقتها دون تدّخل من عائلة زوجها المُحافظة . وسرعان ما أعادت علاقتها بالصحيفة التي كانت تحرّر بها في أوروبة قبل قدومها مع زوجها وابنتيها للوطن .
كان الدكتور أيمن يُريد ألا يحمل وحده مسؤوليّة الأخطاء الكثيرة التي اشترك الكلّ بها. فأخوه نفسه قد أخطأ بمجيئه بتلك الأجنبيّة لمُحيط عائلته المُحافظ في تلك المرحلة، و ماريّا أخطأت بطريقة تربيتها المُتحرّرة لابنتيها ، و السلطات أخطأت بتقصيرها بحماية أخيه مالك المُحاط بالتهديدات اللئيمة ، والبنتان أخطأتا بتناول الحياة بتلك الطريقة التي لم يحبّها قط . إلا أنّه يجد نفسه الآن وحيداً مع تلك الكتلة العفنة من الماضي والأخطاء المتكرّرة ، والأشياء التي يخشى الإفصاح عنها .
فجأة ، سقط من ذاكرته شيء ماً ، فأسرع للهاتف ونقر على لوحة الأزرار ستّ مرات ، وأنتظر كثيراً قبل أن ينطق بالتحيّة لمُحدّثه ، يُعلن اسمه ، ويتحدّث بكلمات مُقتضبة :
_ (( البنات في خطر.. يجب أن تأتي.. عليك أن تأتي .. لن أحمل تلك المسؤوليّة الكُبرى وحدي .. اللعنة ! إن لم تأتي ، أتيتك بقوات الأمن ورجال المستشفى العصبيّ .. أرجوك .. )) .
كانت كلماته تتماوج بين ترغيب وترهيب .
ختم حديثه بعنوان منزله والشكر .
أطبق أيمن السمّاعة ، لكنّه سرعان ما رفعها و طلب زوجته رندا . كان يرتجف وهو يشرح لزوجته ملابسات الأمر :
_ (( إن الأمر أخطر ممّا توقعت ..يبدو أن الأمور بدأت تتكشّف للبنات ..نعم .. أريدك أن تحضري .. لستُ بقادرٍ على احتمال هذا الأمر وحدي .. نعم طلبت ” زياد ” … كان عليّ أن أطلبه.. ))
كانت رندا على الطرف المُقابل تعنّف أيمن وتستحثّ همّته ، وتلوم تحطّمه السريع . كانت تريد أن تمنع أيّ محاولة لنبش الماضي و إحياء أشباحه .إلا أنّ اللعنة كانت قد التصقت بهم ، وكان عليهم مواجهة الأمر بشجاعة هذه المرّة .
_ ” أسرعي..كلّمتني ستيفاني وهي آتية .. لا أدري ما أقول لهما .. تعالي قبل حضور زياد .. ”
* * * * * *
أغلق أيمن سمّاعة الهاتف ، وحاول إشغال نفسه بأشياء تافهة . كان لا يريد أن يفكر ولا أن يتذكر، إلا أن هذا كان من المستحيل ، ففي ذلك اليوم جاء إليه زياد مٌتجهّماً ، مُصطحباً إيّاه للقلعة – الفيلا العائدة لمالك ليُريه اللوحة التي فوجئ مالك و زوجته بإنحفارها على رخام الصالون .
كانت اللوحة مُتقنة الصنع ، مجهولة الصانع . صُنعت في ليلة واحدة ، بدون صوت ، بدون أيّ أثر لبقايا الرخام المنحوت . كانت تُمثّل وجه ماريّا . ورغم أن الفيلا كانت محاصرة بعيون الشرطة ، إلا أنّ إصرار الكلّ على أن الصورة المنحوتة لم تكن موجودة حتى وقت متأخّر من ليل أمس ، أوصل الأمر لحدّ تحقيق السلطات مع خدم المنزل عن الفاعل . قال مالك أنّه تأخّر بمعمله الكائن في القبو كالعادة ، و صعد للطابق الأول ، حيث نام دون أن يُلاحظ أيّ شيء غريب في الصالون . ماريّا قالت أنها لم تنم مُبكّرة كعادتها تلك الليلة ، لأن توأمها كانتا تُعانيان الأرق ، و بقيت تروي لهما الحكايات حتى نامتا ، و لم تسمع أيّ صوت مُريب .
لمّحت ماريّا إلى أنها سمعت صوتاً في ذلك الصباح يُخبرها بأنّه يُحبها ، و سيُقدّم لها عربون محبته ، و عندما هبطت الدرج ، تفاجئت بوجود اللوحة ، أسرعت إلى مالك ، المُتأخّر بنومه كعادته ، لتشكره على هديّته . و عندما استيقظ مالك على وقع قبلات الشكر الموجّهة لجبينه و وجهه ، تفاجئ بشكر زوجته على شيء أنكره تماماً. و بعد أن طلب فنجان قهوته الصباحيّة ، أبدى انزعاجه من مزحات زوجته السمِجة ، التي اصطحبته ليصطدم بوجود اللوحة التي أنكر معرفته بأيّ شيء يتعلّق بها .
اتصل عندها بالشرطة و الحراسة ، مُعتبراً ما جرى اعتداء لا يُغتفر على حريّته و ملكيّته الخاصّة ، خاصة أن الإنكار كان ارتكاسة كلّ من علم بالأمر ، إلا أن التحقيق طُوي قبل أن يصل لأيّ تفسير أو نتيجة مقبولة ، فلا بصمات و لا طرقات بمطرقة أو أزاميل ، و كأنها حُفرت بالليزر كما قال أحدهم .