روايات و قصصغير مصنف

إنهم يُخفون شيئاً \ لغز المنحوتة

الحلقة الثالثة \ نافذ سمان

 

لمتابعة الحلقة السابقة https://www.sohbanews.com/إنّهم-يُخفون-شيئاً-نافذ-سمان-2/

طلب الدكتور أيمن من كابي أن تنام ، بعد أن التهم المُهدّئ الجاري بالعروق آخر قلاع يقظتها . وفعلاً ، تلحّفت كابي بتعرّقها ، ونامت تاركة عمها مُثبّت على مقعده ، يأكلّ الهلع من وقاره المتشبّع بالشيب الذي يحيط بشعره الكثيف .

فجأة اقتلعته من مكانه رنّات الهاتف .

كانت ستيف على الطرف المقابل تتحدّث بإرهاق وعصبيّة . كانت ترمي كلماتها بسرعة  وتشتّت . سألت عن كابي ولم تسأل عن عمّها وأخباره . دعاها العم لزيارته ورؤية كابي ، فأقرّت بحاجتها لذلك .

أعاد الدكتور أيمن السماعة إلى مكانها وارتمى على الأريكة . ها هو ذا الماضي الذي هرب منه يعود ليلحقه بعد كلّ هذا العمر . يومها ، قاطع أخاه بعد زواجه من تلك الأوربيّة المُتَنَمّرة ، كما فعلت كلّ العائلة ، لكنه و بعد حين أعاد علاقته به ، وإن كان بفتور . في تلك الأثناء ظنّ الكلّ أن الخيط الذي يفصل العبقريّة عن الجنون عند أخيه قد انقطع . قالوا انه قد جنّ ،إلا أنّ هذا لم يؤكّد رسميّاً ، وسرعان ما قُتل . رحل أخوه عن الحياة بعد حوادث غريبة لا تُصدّق . لم يكن لأحد أن يعرف من فعلها ؟ وكيف ؟

لم تُظهر التحقيقات الرسميّة أيّ شيء ، و كان اتّهام الجهات الرسميّة للموساد هو آخر فصول الحكاية . تغيّرت حالة ماريّا  – زوجة أخيه – من بعد الحادثة . كانت بحالة نفسيّة سيّئة جداً ، فقد قُتل زوجها  وصديقها وحبيبها . اختفى فجأة من حياتها البروفسور مالك قبل أن يصلها تماماً بمجتمعها الجديد . انفردت بعدها ماريّا  بالقلعة التي قدّمها مالك عربون حبّه لها . بقي لها من الدنيا ، توأم بنات ستيفاني و كابرييل . أرادت أن تربّيهما على طريقتها دون تدّخل من عائلة زوجها المُحافظة . وسرعان ما أعادت علاقتها بالصحيفة التي كانت تحرّر بها في أوروبة قبل قدومها مع زوجها وابنتيها للوطن .

كان الدكتور أيمن يُريد ألا يحمل وحده مسؤوليّة الأخطاء الكثيرة التي اشترك الكلّ بها. فأخوه نفسه قد أخطأ بمجيئه بتلك الأجنبيّة لمُحيط عائلته المُحافظ في تلك المرحلة، و ماريّا أخطأت بطريقة تربيتها المُتحرّرة لابنتيها ، و السلطات أخطأت بتقصيرها بحماية أخيه مالك المُحاط بالتهديدات اللئيمة ، والبنتان أخطأتا بتناول الحياة بتلك الطريقة التي لم يحبّها قط . إلا أنّه يجد نفسه الآن وحيداً مع تلك الكتلة العفنة من الماضي والأخطاء المتكرّرة ، والأشياء التي يخشى الإفصاح عنها .

فجأة ، سقط من ذاكرته شيء ماً ، فأسرع للهاتف ونقر على لوحة الأزرار ستّ مرات ، وأنتظر كثيراً قبل أن ينطق بالتحيّة لمُحدّثه ، يُعلن اسمه ، ويتحدّث بكلمات مُقتضبة :

_ (( البنات في خطر.. يجب أن تأتي.. عليك أن تأتي .. لن أحمل تلك المسؤوليّة الكُبرى وحدي .. اللعنة ! إن لم تأتي ،  أتيتك بقوات الأمن ورجال المستشفى  العصبيّ .. أرجوك .. )) .

كانت كلماته تتماوج بين ترغيب وترهيب .

ختم حديثه بعنوان منزله والشكر .

أطبق أيمن السمّاعة ، لكنّه سرعان ما رفعها و طلب زوجته رندا . كان يرتجف وهو يشرح لزوجته ملابسات الأمر :

_ (( إن الأمر أخطر ممّا توقعت ..يبدو أن الأمور بدأت تتكشّف للبنات ..نعم .. أريدك أن تحضري .. لستُ بقادرٍ على احتمال هذا الأمر وحدي .. نعم طلبت ” زياد ” … كان عليّ أن أطلبه.. ))

كانت رندا على الطرف المُقابل تعنّف أيمن وتستحثّ همّته ، وتلوم تحطّمه السريع . كانت تريد أن تمنع أيّ محاولة لنبش الماضي و إحياء أشباحه .إلا أنّ اللعنة كانت قد التصقت بهم ، وكان عليهم مواجهة الأمر بشجاعة هذه المرّة .

_ ” أسرعي..كلّمتني ستيفاني وهي آتية .. لا أدري ما أقول لهما .. تعالي قبل حضور زياد .. ”

 

*     *     *     *     *     *

 

أغلق أيمن سمّاعة الهاتف ، وحاول إشغال نفسه بأشياء تافهة . كان لا يريد أن يفكر ولا أن يتذكر، إلا أن هذا كان من المستحيل ، ففي ذلك اليوم جاء إليه زياد مٌتجهّماً ، مُصطحباً إيّاه للقلعة – الفيلا العائدة لمالك ليُريه اللوحة التي فوجئ مالك و زوجته بإنحفارها على رخام الصالون .

كانت اللوحة مُتقنة الصنع ، مجهولة الصانع . صُنعت في ليلة واحدة ، بدون صوت ، بدون أيّ أثر لبقايا الرخام المنحوت . كانت تُمثّل وجه ماريّا . ورغم أن الفيلا كانت محاصرة بعيون الشرطة ، إلا أنّ إصرار الكلّ على أن الصورة المنحوتة لم تكن موجودة حتى وقت متأخّر من ليل أمس ، أوصل الأمر لحدّ تحقيق السلطات مع خدم المنزل عن الفاعل . قال مالك أنّه تأخّر بمعمله الكائن في القبو كالعادة ، و صعد للطابق الأول ، حيث نام دون أن يُلاحظ أيّ شيء غريب في الصالون . ماريّا قالت أنها لم تنم مُبكّرة كعادتها تلك الليلة ، لأن توأمها كانتا تُعانيان الأرق ، و بقيت تروي لهما الحكايات حتى نامتا ، و لم تسمع أيّ صوت مُريب .

لمّحت ماريّا إلى أنها سمعت صوتاً في ذلك الصباح يُخبرها بأنّه يُحبها ، و سيُقدّم لها عربون محبته ، و عندما هبطت الدرج ، تفاجئت بوجود اللوحة ، أسرعت إلى مالك ، المُتأخّر بنومه كعادته ، لتشكره على هديّته . و عندما استيقظ مالك على وقع قبلات الشكر الموجّهة لجبينه و وجهه ، تفاجئ بشكر زوجته على شيء أنكره تماماً. و بعد أن طلب فنجان قهوته الصباحيّة ، أبدى انزعاجه من مزحات زوجته السمِجة ، التي اصطحبته ليصطدم بوجود اللوحة التي أنكر معرفته بأيّ شيء يتعلّق بها .

اتصل عندها بالشرطة و الحراسة ، مُعتبراً ما جرى اعتداء لا يُغتفر على حريّته و ملكيّته الخاصّة ، خاصة أن الإنكار كان ارتكاسة كلّ من علم بالأمر ، إلا أن التحقيق طُوي قبل أن يصل لأيّ تفسير أو نتيجة مقبولة ، فلا بصمات و لا طرقات بمطرقة أو أزاميل ، و كأنها حُفرت بالليزر كما قال أحدهم .

 

اظهر المزيد

نافذ سمان

كاتب وروائي سوري الأصل يقيم في النرويج له خمس أعمال منفردة ( مجموعة قصصية ،ثلاث روايات وديوان نثري ) إضافة لثلاث كتب جماعية. له عديد المساهمات في المنظمات الانسانية والتربوية. كاتب مقالات رأي وصحفي في العديد من الصحف والصفحات العربية والنرويجية. صحفي لدى جريدة فيورنجن النرويجية.درس الصحة النفسية للطفل لدى جامعة هارفرد 2017. مجاز ليسانس في الحقوق 1999 وعمل كرئيس لقسم الجباية في سوريا لحوالي 11 عاماً.
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى