
_ ” اسمع ، لقد كان نوراً دائريّ الشكل ، ثم طغى و ملأ حدود السماء و أنار حتّى أرض الغرفة ، بقي حيناً له صوت أزيز نحل ، لا شك أنه ترنيمات الملائكة المُسبّحة بالدعاء . سيطر على السماء ، ثم بدأ بالأفول ، تخلى عن أطراف السماء و تجمّع كما بدأ بشكل دائريّ ، ثم و بلمحة اختفى .
ليس لك أن تشكو ، و ليس لك أن تُكذّب ،و ليس لك أن تُنكر عليّ ما رأيت ، والذي أقسم أنه سماويّ عظيم الشأن . ”
اضطرب أغيد و هو يمدّ يده بعيداً عن سماعة الهاتف متوعّداً أخته التي نقلت لوالدتها سخريّته من قصّة ليلة القدر تلك .
_ ” يا أمّي ، يا ابنة الشيخ راجح ، كلّ ما فكرت فيه أنّ لا ليلة للقدر إلا في شهر رمضان . ”
_ ” اسمع يا فتى ، يا من ورثت الإنكار من خالك ، ذاك الذي أنكر حتى مشيخة جدّك ، فكاد له الله و قتله ، ثم شرّد أولاده كلّ في بلد ، و محق رزقه ، و زوّج امرأته لرجل آخر . عليك أن تُيقن أن كرم الله لا يحدّه وقت أو تاريخ ، و أنّه مُسبّب الأسباب إن أراد شيئاً قال له كن فيكون ، لا يحدّه حد ، و ينقص من قدره وقت أو فعل . ”
* * * * * * *
عندما حرّرت رندا باب شقتها الخشبي من قفله ، و خطت داخلة الشقة ، كان ابنها المراهق يستطلع قنوات الستلايت . ألقت التحيّة عليه على عجل ، و اتجهت نحو غرفة المكتب متوقّعة اجتماعاً ما ، يجمع زوجها بزياد . إلا أنّها فوجئت بزوجها مُتسلّقاً رفوف المكتبة ، و سرعان ما بادأها :
_ ” ستصدقين !! عليك ذلك . استيقظي !! افتحي عينيك لما يجري حولك !! ”
صَمَتَ الدكتور للحظة ، ثم استدرك :
_ ” أين مقالات ماريّا ؟؟ أذكر أنني أخفيتهم هاهنا .”
إلا أنّه فوجئ بردة فعل رندا ، التي توقّعها زاجرةً كالعادة .
كانت السيّدة رندا قد اسقط في يدها ، فرمت ثقلها على الكرسيّ الجلديّ ، و أطلقت زفرة مُستسلمة ، ثم رمت بجملتها الأولى :
_ ” إنّهم في الرفّ الأوسط ، مع أوراق مؤتمر المحامين العرب الأخير بتونس . أخفيتهم ، و كنت أنوي أن أُحرقهم في أقرب فرصة . ”
قفز الدكتور إلى الرفّ المُشار إليه ، و سرعان ما أخرج ملفاً ضخم الحجم ، بدأ بنثر محتوياته على سطح المكتب الخشبيّ الضخم . ملاحظةً ما واجهت تدفّق أفكار الدكتور أيمن الحماسيّ . فرفع بصره ليدُهش بمنظر رندا ( المرأة الحديديّة ) كما يروق له أن يدعوها . كانت رندا قد انتابتها نوبة ذهول كئيب . بدا وجهها مصفرّاً ، خالياً من الملامح . جَرّب أن يسألها / ما الأمر ؟ / إلا أنه أبعد تلك الفكرة عنه ، بعد أن اكتشف سذاجة السؤال ، فقال ، وهو يتابع نسل وريقات الجرائد المقصوصة و المدسوسة بين الأوراق البيضاء و الكُتيبات المُتراصّة :
_ ” تأخّر زياد !! ”
عادت الروح فجأة لجسد رندا ، فأطلقت سؤالها المُتأخّر مُرتجفة :
_ ” ألم يحضر بعد ؟؟ ثم ، و لمَ تجمع مقالات ماريّا ؟؟ ما الحكمة من ذلك ؟ ”
_ ” إن كنت تذكرين ، فإنّ في كلّ قصص ماريّا و مقالاتها ، شيء خياليّ المنشأ ، خارج عن المعقول . أحياناً يكون بطلاً لقصصها ، و أحياناً مُسيّراً لمقالاتها ، و أحياناً يكون هذا البطل ، هو كلّ القصّة ، أو المقالة . ”
مالت رندة بوجهها مُسترجعة القليل من قوتها ، مُتهَكّمة على كلمات أيمن :
_ ” أو مازلت تذكر ؟ إنّك و الله لفي غيّك القديم ! ”
قال أيمن مُحاولاً أن يدفع زوجته لأن تستنتج شيئاً من حيرته :
_ ” رندة اسمعي ، إنّ كلّ هذه المقالات نُشرت بعد وفاة مالك ” .
_ ” حتماً ، لأنّ ماريّا لم تتواصل مع جريدتها السابقة إلا بعد أن عانت الوحدة بعد وفاة مالك ، أصبحت تلك الجريدة نافذة و خطوة أولى ، تلك الخطوة التي دفعتها بعد حين إلى العودة إلى أوروبا . ”
_ ” حسناً . ”
عاود أيمن بحماسة ، مُتجاهلاً برود زوجته ، التي لازالت تصرّ على لعب دور الكارهة بدون سبب لزوجة أخيه الهاربة .
_ ” يظهر هنا لدينا احتمالين ، إمّا أنّ هذه القصص و المقالات قد كُتبت جلّها سابقاً ، و من ثمّ كُتب بعضها لاحقاً، أو أنها ، فعلاً ، كُتبت كلّها لاحقاً . أي بعد وفاة مالك . و في كلتا الحالتين ، فالأمر يصبّ في خانة واحدة .لأنّها تحمل نكهة واحدة .بطلاً واحداً . أحداثاً واحدةً . و حول أمر واحد .”
_ ” ماذا تريد أن تقول ؟ ”
أظهرت رندة مللها من سرد زوجها لفرضيّات غير متجانسة ، محاولة دفعه للاختصار قدر الإمكان .
_ ” لا أعرف بالضبط . لا أعرف .”
قالها أيمن خافياً ما يدور في رأسه من أفكار فشل في التلميح لزوجه بها ، و رفع نظره الشاحب ليلتقي بنظرات رندة ، التي كانت ترتجّ حدقتها في ماء عينها .
اصطدمت أنفاس الزوجين المتوتّرين .
_ ” هل مازلت تُصدّق ؟؟ ”
_ ” ما كذّبت الأمر البتّة !! ”
_ ” ليحمنا الله في الأيام القادمة . ”
تبادل الزوجان نظرات مُشفقة ، كانا يشعران أن البركان قد بلغ مرحلة الانفجار ، و أنّ الحذر لن يجدي نفعاً بعد الآن .
* * * * *
كان الشاب الذي يجالس ” الستلايت ” مُبعداً عن كلّ ما يجري ، و لم يكن عنده ، حتى رغبة الخوض فيه .
كانت أحاسيسه باردة جداً تجاه بنات عمه ، و ينظر إلى تصرّفات أبويه نظرة رافضة لأيّ تدّخل منهما بشؤون البنات ، لأنه كان مُتقنعاً أن تلك التدخّلات لن تزيد الأمور إلا سوءاً . الحقيقة أنّ هذه النظرة لم تكن تقتصر على تدخل والديه _ المُتأخّر أساساً _ بشؤون البنات ، بل كانت هذه النظرة تنسحب على كلّ تصرفات والديه ، اللذين يمثلان بنظره الوجه الحقيقيّ للفكر الرجعيّ المُتصلّب .
كان داخلياً يحسد بنات عمّه على الحرية الممنوحة لهما ، و يستنكر استغاثتهما الغريبة بأبويه ، رغم هامش حريّة التصرف الواسع لهما .
على كلّ حال ، فقد كانت هذه الليلة ذهبيّة له ، فقد استعمل الهاتف حتى وقت متأخر ، و صارع الستلايت حتى أرداه النعاس نائماً على أريكته ، التي سبق و أن افترشها ليتابع التلفزيون .
_ ” ما أجمل الدنيا بلا أهل . ماذا لو كانت طريقة تكاثر البشر هي بالبيض ؟ و هل أروع من أن أخرج من بيضتي لأجد نفسي هكذا ” فري ” . ”
كان يُحدّث نفسه ، و هو يجول على متع الدنيا تلفزيونياً مُتحسّراً على الليالي التي قضاها في غرفته المُغلقة عليه ، مُتصارعاً مع معادلات رياضيّة أو فيزيائيّة ، لم يجد لها فائدة مرجوّة حتى الآن .