روايات و قصص

إنهم يخفون شيئاَ \ حزمة أوراق من الزمن البعيد

الحلقة العاشرة \ نافذ سمان

 

 

_ ” اسمع ، لقد كان نوراً دائريّ الشكل ، ثم طغى و ملأ حدود السماء و أنار حتّى أرض الغرفة ، بقي حيناً له صوت أزيز نحل ، لا شك أنه ترنيمات الملائكة المُسبّحة بالدعاء . سيطر على السماء ، ثم بدأ بالأفول ، تخلى عن أطراف السماء و تجمّع كما بدأ بشكل دائريّ ، ثم و بلمحة اختفى .

ليس لك أن تشكو ، و ليس لك أن تُكذّب ،و ليس لك أن تُنكر عليّ ما رأيت ، والذي أقسم أنه سماويّ عظيم الشأن . ”

اضطرب أغيد و هو يمدّ يده بعيداً عن سماعة الهاتف متوعّداً أخته التي نقلت لوالدتها سخريّته من قصّة ليلة القدر تلك .

_ ” يا أمّي ، يا ابنة الشيخ راجح ، كلّ ما فكرت فيه أنّ لا ليلة للقدر إلا في شهر رمضان . ”

_ ” اسمع يا فتى ، يا من ورثت الإنكار من خالك ، ذاك الذي أنكر حتى مشيخة جدّك ، فكاد له الله و قتله ، ثم شرّد أولاده كلّ في بلد ، و محق رزقه ، و زوّج امرأته لرجل آخر . عليك أن تُيقن أن كرم الله لا يحدّه وقت أو تاريخ ، و أنّه مُسبّب الأسباب إن أراد شيئاً قال له كن فيكون ، لا يحدّه حد ، و ينقص من قدره وقت أو فعل . ”

 

*    *    *    *    *    *   *

 

عندما حرّرت رندا باب شقتها الخشبي من قفله ، و خطت داخلة الشقة ، كان ابنها المراهق يستطلع قنوات الستلايت . ألقت التحيّة عليه على عجل ، و اتجهت نحو غرفة المكتب متوقّعة اجتماعاً ما ، يجمع زوجها بزياد . إلا أنّها فوجئت بزوجها مُتسلّقاً رفوف المكتبة ، و سرعان ما بادأها  :

_ ” ستصدقين !! عليك ذلك . استيقظي !! افتحي عينيك لما يجري  حولك !!  ”

صَمَتَ الدكتور للحظة ، ثم استدرك  :

_ ” أين  مقالات ماريّا ؟؟ أذكر أنني  أخفيتهم هاهنا .”

إلا أنّه فوجئ بردة فعل رندا ، التي توقّعها زاجرةً كالعادة .

كانت السيّدة رندا قد اسقط في يدها ، فرمت ثقلها على الكرسيّ الجلديّ ، و أطلقت زفرة مُستسلمة ، ثم رمت بجملتها الأولى  :

_ ” إنّهم في الرفّ الأوسط ، مع أوراق مؤتمر المحامين العرب الأخير بتونس . أخفيتهم ، و كنت أنوي أن أُحرقهم في أقرب فرصة . ”

قفز الدكتور إلى الرفّ المُشار إليه ، و سرعان ما أخرج ملفاً ضخم الحجم ، بدأ بنثر محتوياته على سطح المكتب الخشبيّ الضخم . ملاحظةً ما واجهت تدفّق أفكار الدكتور أيمن الحماسيّ . فرفع بصره ليدُهش بمنظر رندا ( المرأة الحديديّة ) كما يروق له أن يدعوها . كانت رندا قد انتابتها نوبة ذهول كئيب . بدا وجهها مصفرّاً ، خالياً من الملامح . جَرّب أن يسألها  / ما الأمر ؟ /  إلا أنه أبعد تلك الفكرة عنه ، بعد أن اكتشف سذاجة السؤال ، فقال ، وهو يتابع نسل وريقات الجرائد المقصوصة و المدسوسة بين الأوراق البيضاء و الكُتيبات المُتراصّة :

_ ” تأخّر زياد !!  ”

عادت الروح فجأة لجسد رندا ، فأطلقت سؤالها المُتأخّر مُرتجفة  :

_ ” ألم يحضر بعد ؟؟  ثم ، و لمَ تجمع مقالات ماريّا ؟؟ ما الحكمة من ذلك ؟ ”

_ ” إن كنت تذكرين ، فإنّ في كلّ قصص ماريّا و مقالاتها ، شيء خياليّ المنشأ ، خارج عن المعقول . أحياناً يكون بطلاً لقصصها ، و أحياناً مُسيّراً لمقالاتها ، و أحياناً يكون هذا البطل ، هو كلّ القصّة ، أو المقالة . ”

مالت رندة بوجهها مُسترجعة القليل من قوتها ، مُتهَكّمة على كلمات أيمن :

_ ” أو مازلت تذكر ؟ إنّك و الله لفي غيّك القديم ! ”

قال أيمن مُحاولاً أن يدفع زوجته لأن تستنتج شيئاً من حيرته :

_ ” رندة اسمعي ، إنّ كلّ هذه المقالات نُشرت بعد وفاة مالك ” .

_ ” حتماً ، لأنّ ماريّا لم تتواصل مع جريدتها السابقة إلا بعد أن عانت الوحدة بعد وفاة مالك ، أصبحت تلك الجريدة نافذة و خطوة أولى ، تلك الخطوة التي دفعتها بعد حين إلى العودة إلى  أوروبا . ”

_ ” حسناً . ”

عاود أيمن بحماسة ، مُتجاهلاً برود زوجته ، التي لازالت تصرّ على لعب دور الكارهة بدون سبب لزوجة أخيه الهاربة  .

_ ” يظهر هنا لدينا احتمالين ، إمّا أنّ هذه القصص و المقالات قد كُتبت جلّها سابقاً ، و من ثمّ كُتب بعضها لاحقاً، أو أنها ، فعلاً ، كُتبت كلّها لاحقاً . أي بعد وفاة مالك . و في كلتا الحالتين ، فالأمر يصبّ في خانة واحدة .لأنّها تحمل نكهة واحدة .بطلاً واحداً . أحداثاً واحدةً . و حول أمر واحد .”

_ ” ماذا تريد أن  تقول ؟ ”

أظهرت رندة مللها من سرد زوجها لفرضيّات غير متجانسة ، محاولة دفعه للاختصار قدر الإمكان .

_ ” لا أعرف بالضبط . لا أعرف .”

قالها أيمن خافياً ما يدور في رأسه من أفكار فشل في التلميح لزوجه بها ، و رفع نظره الشاحب ليلتقي بنظرات رندة ، التي كانت ترتجّ حدقتها في ماء عينها .

اصطدمت أنفاس الزوجين المتوتّرين .

_ ” هل مازلت تُصدّق ؟؟ ”

_ ” ما كذّبت الأمر البتّة !! ”

_ ” ليحمنا الله في الأيام القادمة . ”

تبادل الزوجان نظرات مُشفقة ، كانا يشعران أن البركان قد بلغ مرحلة الانفجار ، و أنّ الحذر لن يجدي نفعاً بعد الآن .

 

*       *       *       *       *

 

كان الشاب الذي يجالس ” الستلايت ” مُبعداً عن كلّ ما يجري ، و لم يكن عنده ، حتى رغبة الخوض فيه .

كانت أحاسيسه باردة جداً تجاه بنات عمه ، و ينظر إلى تصرّفات أبويه نظرة رافضة لأيّ تدّخل منهما بشؤون البنات ، لأنه كان مُتقنعاً أن تلك التدخّلات لن تزيد الأمور إلا سوءاً . الحقيقة أنّ هذه النظرة لم تكن تقتصر على تدخل والديه _ المُتأخّر أساساً _ بشؤون البنات ، بل كانت هذه النظرة تنسحب على كلّ تصرفات والديه ، اللذين يمثلان بنظره الوجه الحقيقيّ للفكر الرجعيّ المُتصلّب .

كان داخلياً يحسد بنات عمّه على الحرية الممنوحة لهما ، و يستنكر استغاثتهما الغريبة بأبويه ، رغم هامش حريّة التصرف الواسع لهما .

على كلّ حال ، فقد كانت هذه الليلة ذهبيّة له ، فقد استعمل الهاتف حتى وقت متأخر ، و صارع الستلايت حتى أرداه النعاس نائماً على أريكته ، التي سبق و أن افترشها ليتابع التلفزيون .

_ ” ما أجمل الدنيا بلا أهل . ماذا لو كانت طريقة تكاثر البشر هي بالبيض ؟ و هل أروع من  أن  أخرج من  بيضتي لأجد نفسي هكذا ” فري ” .  ”

كان يُحدّث نفسه ، و هو يجول على متع الدنيا تلفزيونياً مُتحسّراً على الليالي التي قضاها في غرفته المُغلقة عليه ، مُتصارعاً مع معادلات رياضيّة أو فيزيائيّة ، لم يجد لها فائدة مرجوّة حتى الآن .

 

اظهر المزيد

نافذ سمان

كاتب وروائي سوري الأصل يقيم في النرويج له خمس أعمال منفردة ( مجموعة قصصية ،ثلاث روايات وديوان نثري ) إضافة لثلاث كتب جماعية. له عديد المساهمات في المنظمات الانسانية والتربوية. كاتب مقالات رأي وصحفي في العديد من الصحف والصفحات العربية والنرويجية. صحفي لدى جريدة فيورنجن النرويجية.درس الصحة النفسية للطفل لدى جامعة هارفرد 2017. مجاز ليسانس في الحقوق 1999 وعمل كرئيس لقسم الجباية في سوريا لحوالي 11 عاماً.
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى