
لمتابعة الحلقة السابقة https://www.sohbanews.com/إنهم-يُخفون-شيئاً-نافذ-سمان-3/
كان زياد الصديق الأقرب لمالك ، و كان يعرف الكثير عن مالك و ماريّا .
كان مُقرّباً لدرجة تحتّم حضوره الآن ، فقد فار التنّور ، و ما من شيء سيوقف تسلسل ما سيصدم الكلّ في الساعات التالية .
حدّث أيمن نفسه و هو يلتهم أظافره قلِقاً :
_ ” ليت رندا تصل قبله …لا أدري لمَ أخشى مواجهته مُنفرداً ؟ … ألهذه الدرجة أخشى من الماضي ؟؟ …و من زياد ؟؟ ”
* * * * * * * *
ارتمى أغيد داخِلاً مكتبه و هو يستمع بدون اهتمام لزميله في القسم ، الملازم أول حسن ، و الذي بدأ يُلمّح لعلاقة أغيد الجيّدة بمدام هيام ابنة قريته ، و زوجة رئيس الدائرة ، العقيد هاشم :
_ ” عليكَ ألا تتأخر ثانية ، و إلا فإنك ستجد نفسك في مكان آخر لن يُعجبك ، و لن تنفعك حينها وساطات مدام هيام . ”
رسم أغيد ابتسامة صفراء على وجهه الصلب ، و سرعان ما اتّكأ على مكتب زميله ليرفع فنجان قهوة يسرق منه رشفتين قبل أن يُعيده إلى مكانه أمام حسن :
_ ” أعطني سيجارة ، لقد نسيتُ سجائري . ”
_ ” هل كانت ليلتك حمراء يا دون خوان ؟ ”
رفع حسن سمّاعة الهاتف ليطلب لأغيد فنجان قهوة من البوفيه .
_ ” سوداء ، كانت ليلة سوداء . ”
مسح أغيد وجهه براحتي يديه قبل أن يُخرج قرصاً من السيتامول و يبتلعه دون ماء .
_ ” والدتي ، أم أغيد خانم ، شاهدَت البارحة ليلة القدر ، و حرصَت على أن أقضي ليلتي مُنتظراً مرور تلك الليلة فوق الشام ، لأدعو الرحمن أن يرزقني زوجة صالحة ، و ذريّة من الذكور النجباء . ”
ابتسم حسن و هو يتصنّع الاهتمام :
_ ” مرور ليلة القدر فوق الشام ؟ ”
تلعثم حسن بكلماته و هو يُحاول ألا يُخرج القهوة من فمه بعد أن هزّته سذاجة ما سمع للتو ، ثم أكمل :
_ ” و هل استطعتَ أن تلتقطها و تدعو ما شئت ؟ ”
قال أغيد بصبر نفذ :
_ ” لقد نظرتُ إلى السقف ، و رفعتُ يدي لتجاورا فمي و دعوتُ أن تنسى أمّي الأمر و تدعني أكمل نومي . ”
قعقعت ضحكة حسن الذي طرق الطاولة عدّة مرّات بقبضته مُنتشياً ، مما دفع أغيد للتخلص من سخريات زميله :
_ ” بالله عليك حسن ، لقد كانت أمّي تتصل كلّ خمسة دقائق لتتأكد من استيقاظي ، و سهري على إتمام الأمر . ”
تحدّث أغيد بجديّة ، في حين كان حسن يتابع تهكّمه :
_ ” يبدو أنك أخطأت بموعد رحلة الطائرة التي استقلّتها ليلة قدر أمّك ، ثمّ ، أيّ ليلة قدر هذي التي تأتي بعد عيد الأضحى بشهرين ؟ ”
ابتلع أغيد شهقة و هو يستدرك ملاحظة حسن المُحقّة ، فقد كان على أحدهم أن يُذكّره بمعلوماته القليلة عن أمور الدين ، و التي منها أنّ ليلة القدر لا تظهر إلا في شهر رمضان ، أو هكذا كان يعتقد حتى الساعة ، و أم أغيد لم تعتد المزاح بهكذا أمور .
دارت أسئلة صامتة داخل رأس أغيد :
_ ” ماذا رأت أم أغيد إذاً ؟ و مالذي أطار النوم من عينيها ؟ ”
تأمّل حسن صديقه أغيد قبل أن يطرق بيده الطاولة مُحاولاً استرجاعه من تخريفاته :
_ ” هيه !! هل بتّ تنام بعيون مفتوحة ؟ اشرب قهوتك و أنهي عملك ، فأنت بحاجة لراتبك أكثر من تزكيات مدام هيام لك عند الإدارة . ”
رشف أغيد قهوته بنهم ، و أحرق سيجارة بشهيقين فقط ، قبل أن يدمدم و هو يختفي داخل غيمة دخانيّة :
_ ” ماذا رأيتِ يا أم أغيد ؟ و مالذي أطار من عينيك النوم ؟ ”
* * * * *
كانت العزلة التي فرضها زياد على نفسه طوال السنين الماضية قد ألقت عليه ظلالاً من الهيبة و الريبة معاً . لقد طاله هو الآخر التشكيك بقواه العقليّة ، و اتّسمت حركاته القليلة بالغموض.
ترك ، أو أُجبر على ترك عمله المُزدهر كمُخرج تلفزيونيّ، وعزل نفسه عن مكانته الاجتماعيّة المرموقة التي وضعته مع نخبة المجتمع حينها . نخبة لم تكن تضمّ إلا ورثة البرجوازيّة الوطنيّة ، المُتبخترين بشهاداتهم العلميّة المُستوردة من القاهرة وبيروت و باريس .
في تلك الأثناء ، أصبح زياد قبلة الفتيات اليانعات الهاربات من قراهنّ الوادعة ، و الفارّات من فقر الريف و شظف عيشه ، إلى جنّة الشهرة و السينما و المجتمعات المخمليّة .
كان زياد المحطّة الأولى للباحثات عن أضواء الشهرة و المال ، فحصٌ بسيطٌ يُجريه زياد مُستخدماً عينيه فقط ، كان يمنح سعيدة الحظّ المُنتقاة موعداً آخر مع المخرج الفذّ ، لم يكن زياد في موعده التالي يكتفي باستخدام عينيه ، فقد كان يؤمن بأن التمثيل مهنة مُتعبة و قاسية ، و تتطلّب توافر الكثير من المقوّمات الأخرى ، و التي لا تقلّ أهمية عن الموهبة ، و كان عليه أن يتأكّد و بصورة شخصيّة إلى أن تلك المُرشّحة تستطيع أن تتابع مسيرتها منفردة ، تلك المسيرة التي لابد أن تكون مُظفّرة ، خاصّة إذا اقترنت بتزكية تحمل طابع الإصرار من زياد لأهل الحلّ و الربط في الوسط الفنيّ .
صاحب الصولات و الجولات ذاك ، دارت به الدنيا ، و هو الآن مرميّ هنا ، نسيته الشهرة ، و أنفضّ من حوله الأصحاب .
أوصلته العزلة لأن يوصي العم عبدو ، ناطور البناء ، أن يطرق عليه الباب يوميّاً ، و يتركه إذا سمعه من الداخل ، فقد سيطرت عليه في الآونة الأخيرة فكرة أرّقته ، هل من المعقول أن يموت و تتعفّن جثّته ، دون أن يلاحظ غيابه أحد ؟ فرغم كلّ من رآهنّ ، و عاشرهنّ ، إلا أن إحداهنّ لم تستطع أن تملأ الفراغ الذي تركته فتون ، زوجته التي سرقها القدر ، و سرق كذلك ابنه الذي لم يره قط .