روايات و قصص

إنهم يخفون شيئاً \ ليلة القدر ؟؟

     الحلقة الرابعة \ نافذ سمان

 

لمتابعة الحلقة السابقة https://www.sohbanews.com/إنهم-يُخفون-شيئاً-نافذ-سمان-3/ ‎

كان زياد الصديق الأقرب لمالك ، و كان يعرف الكثير عن مالك و ماريّا .

كان مُقرّباً لدرجة تحتّم حضوره الآن ، فقد فار التنّور ، و ما من شيء سيوقف تسلسل ما سيصدم الكلّ في الساعات التالية .

حدّث أيمن نفسه و هو يلتهم أظافره قلِقاً :

_ ” ليت رندا تصل قبله …لا أدري لمَ أخشى مواجهته مُنفرداً ؟ … ألهذه الدرجة أخشى من  الماضي ؟؟ …و من  زياد ؟؟ ”

 

*   *   *   *   *   *  *  *

 

ارتمى أغيد داخِلاً مكتبه و هو يستمع بدون اهتمام لزميله في القسم ، الملازم أول حسن ، و الذي بدأ يُلمّح لعلاقة أغيد الجيّدة بمدام هيام ابنة قريته ، و زوجة رئيس الدائرة ، العقيد هاشم :

_  ” عليكَ ألا تتأخر ثانية ، و إلا فإنك ستجد نفسك في مكان آخر لن يُعجبك ، و لن تنفعك حينها وساطات مدام هيام . ”

رسم أغيد ابتسامة صفراء على وجهه الصلب ، و سرعان ما اتّكأ على مكتب زميله ليرفع فنجان قهوة يسرق منه رشفتين قبل أن يُعيده إلى مكانه أمام حسن :

_ ” أعطني سيجارة ، لقد نسيتُ سجائري . ”

_ ” هل كانت ليلتك حمراء يا دون خوان ؟ ”

رفع حسن سمّاعة الهاتف ليطلب لأغيد فنجان قهوة من البوفيه .

_ ” سوداء ، كانت ليلة سوداء . ”

مسح أغيد وجهه براحتي يديه قبل أن يُخرج قرصاً من السيتامول و يبتلعه دون ماء .

_ ” والدتي ، أم أغيد خانم ، شاهدَت البارحة ليلة القدر ، و حرصَت على أن أقضي ليلتي مُنتظراً مرور تلك الليلة فوق الشام ، لأدعو الرحمن أن يرزقني زوجة صالحة ، و ذريّة من الذكور النجباء . ”

ابتسم حسن و هو يتصنّع الاهتمام :

_ ” مرور ليلة القدر فوق الشام ؟ ”

تلعثم حسن بكلماته و هو يُحاول ألا يُخرج القهوة من فمه بعد أن هزّته سذاجة ما سمع للتو ، ثم أكمل :

_ ” و هل استطعتَ أن تلتقطها و تدعو ما شئت ؟ ”

قال أغيد بصبر نفذ :

_ ” لقد نظرتُ إلى السقف ، و رفعتُ يدي لتجاورا فمي و دعوتُ أن تنسى أمّي الأمر و تدعني أكمل نومي . ”

قعقعت ضحكة حسن الذي طرق الطاولة عدّة مرّات بقبضته مُنتشياً ، مما دفع أغيد للتخلص من سخريات زميله :

_ ” بالله عليك حسن ، لقد كانت أمّي تتصل كلّ خمسة دقائق لتتأكد من استيقاظي ، و سهري على إتمام الأمر . ”

تحدّث أغيد بجديّة ، في حين كان حسن يتابع تهكّمه  :

_ ” يبدو أنك أخطأت بموعد رحلة الطائرة التي استقلّتها ليلة قدر أمّك ، ثمّ ، أيّ ليلة قدر هذي التي تأتي بعد عيد الأضحى بشهرين ؟ ”

ابتلع أغيد شهقة و هو يستدرك ملاحظة حسن المُحقّة ، فقد كان على أحدهم أن يُذكّره بمعلوماته القليلة عن أمور الدين ، و التي منها أنّ ليلة القدر لا تظهر إلا في شهر رمضان ، أو هكذا كان يعتقد حتى الساعة ، و أم أغيد لم تعتد المزاح بهكذا أمور .

دارت أسئلة صامتة داخل رأس أغيد :

_ ” ماذا رأت أم أغيد إذاً ؟ و مالذي أطار النوم من عينيها ؟ ”

تأمّل حسن صديقه أغيد قبل أن يطرق بيده الطاولة مُحاولاً استرجاعه من تخريفاته :

_ ” هيه !! هل بتّ تنام بعيون مفتوحة ؟ اشرب قهوتك و أنهي عملك ، فأنت بحاجة لراتبك أكثر من تزكيات مدام هيام لك عند الإدارة . ”

رشف أغيد قهوته بنهم ، و أحرق سيجارة بشهيقين فقط ، قبل أن يدمدم و هو يختفي داخل غيمة دخانيّة :

_ ” ماذا رأيتِ يا أم أغيد ؟ و مالذي أطار من عينيك النوم ؟ ”

 

 

*       *        *        *         *

 

كانت العزلة التي فرضها زياد على نفسه طوال السنين الماضية قد ألقت عليه ظلالاً من الهيبة و الريبة معاً . لقد طاله هو الآخر التشكيك بقواه العقليّة ، و اتّسمت حركاته القليلة بالغموض.

ترك ، أو أُجبر على ترك عمله المُزدهر كمُخرج تلفزيونيّ، وعزل نفسه عن مكانته الاجتماعيّة المرموقة التي وضعته مع نخبة المجتمع حينها . نخبة لم تكن تضمّ إلا ورثة البرجوازيّة الوطنيّة ، المُتبخترين بشهاداتهم العلميّة المُستوردة من القاهرة وبيروت و باريس .

في تلك الأثناء ، أصبح زياد قبلة الفتيات اليانعات الهاربات من قراهنّ الوادعة ، و الفارّات من فقر الريف و شظف عيشه ، إلى جنّة الشهرة و السينما و المجتمعات المخمليّة .

كان زياد المحطّة الأولى للباحثات عن أضواء الشهرة و المال ، فحصٌ بسيطٌ يُجريه زياد مُستخدماً عينيه فقط ، كان يمنح سعيدة الحظّ المُنتقاة موعداً آخر مع المخرج الفذّ ، لم يكن زياد في موعده التالي يكتفي باستخدام عينيه ، فقد كان يؤمن بأن التمثيل مهنة مُتعبة و قاسية ، و تتطلّب توافر الكثير من المقوّمات الأخرى ، و التي لا تقلّ أهمية عن الموهبة ، و كان عليه أن يتأكّد و بصورة شخصيّة إلى أن تلك المُرشّحة تستطيع أن تتابع مسيرتها منفردة ، تلك المسيرة التي لابد أن تكون مُظفّرة ، خاصّة إذا اقترنت بتزكية تحمل طابع الإصرار من زياد لأهل الحلّ و الربط في الوسط الفنيّ .

صاحب الصولات و الجولات ذاك ، دارت به الدنيا ، و هو الآن مرميّ هنا ، نسيته الشهرة ، و أنفضّ من حوله الأصحاب .

أوصلته العزلة لأن يوصي العم عبدو ، ناطور البناء ، أن يطرق عليه الباب يوميّاً ، و يتركه إذا سمعه من الداخل ، فقد سيطرت عليه في الآونة الأخيرة فكرة أرّقته ، هل من المعقول أن يموت و تتعفّن جثّته ، دون أن يلاحظ غيابه أحد ؟ فرغم كلّ من رآهنّ ، و عاشرهنّ ، إلا أن إحداهنّ لم تستطع أن تملأ الفراغ الذي تركته فتون ، زوجته التي سرقها القدر ، و سرق كذلك ابنه الذي لم يره قط .

 

 

اظهر المزيد

نافذ سمان

كاتب وروائي سوري الأصل يقيم في النرويج له خمس أعمال منفردة ( مجموعة قصصية ،ثلاث روايات وديوان نثري ) إضافة لثلاث كتب جماعية. له عديد المساهمات في المنظمات الانسانية والتربوية. كاتب مقالات رأي وصحفي في العديد من الصحف والصفحات العربية والنرويجية. صحفي لدى جريدة فيورنجن النرويجية.درس الصحة النفسية للطفل لدى جامعة هارفرد 2017. مجاز ليسانس في الحقوق 1999 وعمل كرئيس لقسم الجباية في سوريا لحوالي 11 عاماً.
زر الذهاب إلى الأعلى