روايات و قصص

إنهم يخفون شيئاً \ الزيارة الملعونة

الحلقة الثامنة \ نافذ سمان

 

 

تناولت ستيف ما حضّرته لها الخادمة ببطء و بعيون مُعلّقة على الصحن ، مفتوحة حتى الدهشة ، بدأت تتمتم ، بعد صمت مُضجر، و كأنّها تُحدّث نفسها :

_ ” ربما هو غروري الموروث ما يجعلني أحسّ و كأن كلّ العيون مُسلّطة عليّ ، إلا أن ما يجري معي الآن لا يندرج قط تحت هذا المسمى ، فأحياناً استيقظ من نومي لإحساس يشدّني شدّاً لأن أواري جسدي تحت الغطاء . إحساس غريب ، و كأنّ الغرفة كلّها عيون كبيرة تراقب جسدي . أما عن التعرّي ، فأنا أقسم أنّني راقبتُ نفسي عدّة مرّات ، بل وصل بي  الأمر لأن أُسجّل على ورقة تفاصيل ما أرتديه قبل النوم ، لأُصعق و إنا أستيقظ لأجد نفسي عارية تماماً .”

عندما رفعت ستيف رأسها تدحرجت دمعة كانت تتماوج في زرقة عينيها ، و كأن الأخيرة بحر بدأ ينزف . أما الدكتور أيمن ، فقد كان يحتضن رأسه بكفّيه الذين سدّا صيوانا أذنيه مُحاولاً منع الكلام أن يتسلل إلى مخّه . في حين كانت السيّدة رندا تحاول إشغال نفسها بأوامر كانت تلقيها على أسماع الخادمة التي بدأت تستعيذ بسرّها من هذا اليوم .

_ ” أسألك عماه . ماذا تفعل لو استيقظتَ من نومك و أنت عار من ثيابك التي سبق و ارتديتها ، بل ، و سبق أن سجّلت تفاصيلها في الليلة السابقة على قائمة ، و بألوان  فاقعة ؟”

غارت عيون الدكتور أيمن داخل رأسه ، و العرق البارد بدأ ينبع من وجهه الذي علاه الاصفرار. أما ارتباك السيّدة رندا فقد شلها عن متابعة الخادمة التي انسلّت زئبقيّاً من أمام أنظار السيّدة التي تحطّمت على الكنبة المُجاورة .

فجأة استحال البيت الرحب إلى أضيق من سجن . كانت أنفاس الموجودين تتصادم بتوتّر ، و سرعان ما هبطت كالوحي على رأس أيمن فكرة ما ، فهرول لغرفته و خرج مرتدياً معطفه السميك ، و قد تشبّكت يديه بقفّازات جلديّة . قال ، وهو يعتمر قبّعة فرو روسيّة المنشأ :

_ ” إلى الجبل . سنتزلج على ثلج  لبنان . أولللي !! ”

كانت صرخاته الفرِحة ، مدّ بحريّ غمر ارتباك الكلّ و شحوبهم .

رويداً ، بدأت جفون كابي تُعاود الحياة . و شيئاً فشيئاً بدأت الحركة تنتشر في خلايا جسدها المُنهك ، و سرعان ما زفّت إليها ستيف اقتراح عمّها ، وهي تجمع جسديهما بضمّة مُشتاقة . كانت الضمّة طويلة . كانت ستيف تدفع بجسدها نحو جسد توأمها ، و كأنّها تريد إدخال خلاياها بخلايا شقيقتها ، لتكشف كنه التعب الذي دفع عيني كابي للخارج ، و سحب لسانها و دفأها للداخل .

كانت العائلة صامتة ، و كأنّها تنتظر ولادة أولى كلمات كابي ، و بعد مخاض جمّد العيون و الأنفاس ، سقطت أولى كلمات كابي :

_ ” زارني  . . . . يريدني . . . ”

ثم صمتت كابي ، و كأنّها تحدّث أحداً داخلها ، في حين كانت الأسرة تزداد جموداً ، و العم أيمن يزداد تعرّقاً و اختناقاً .

_ ” لا فائدة . . لا فائدة . . نعم . . ”

كلمات أخرى كان وقعها كالصاعقة ، شقّت قلبي العم أيمن و زوجته اللذان تبادلا نظرات سريعة ، ربطت ما بين عيني أيمن الجاحظة استفهاماً ، و عيون رندا المُنكرة كلّ ما قيل و يُقال .

 

*    *    *    *    *    *    *

 

انفلت جسد كابي من يدي ستيف ، لينهار أرضاً تحت أنظار أختها التي حاولت استعادة كابي من غيبوبتها ، أو في الأقل ، استعادة كلماتها لمُحاولة ترجمتها بشكلّ أفضل .

ريح سحريّة هبّت لتجمّد قلوب و حركات الكلّ . طارت الستائر المُرخاة على النوافذ المُغلقة ، و توزّع خَدَر في المكان . الشيء الذي دفع الخادمة لتصرخ بعفويّة جَزِعة مُطالبة بطبيب للفتاة التي بدا جسدها أثقل من أن تحمله أختها الشابة فارتمى أرضاً .

التصق العم أيمن بمكانه ، تماماً كالتصاق خلايا وجهه ببعضها مُبدية حياديّة لا يعلوها إلا رذاذ التعرّق البارد.

*        *         *        *       *

 

كان طلب سيّارة الإسعاف و انتظار صفّاراتها ، الحلّ الأفضل لقتل ما ارتاع منه الكلّ بعد نوبة الهلع التي انتابتهم .

دقائق طويلة كانت تلك التي تلت المُكالمة التي أجرتها السيّدة رندا ، و التي سبقت وصول سيّارات الإسعاف بأنوارها الحمراء و الزرقاء إلى منزل الدكتور أيمن . كانت الخادمة قد ترأّست الدرج ،  لتهرول أمام الممرضين ، الذين سرعان ما أدخلوا أجهزتهم الفاحصة ، ليرموا الدكتور بمعلومة قاتلة  // القلب متوقف ، دكتور . لا تنفس .الضغط في مُعدّلاته المُميتة .لا دليل على وجود الحياة ، اللهم إلا الحرارة التي مازالت تحوم بغرابة حول معدّلاتها . //

كُبّل جسد الفتاة الغضّ على الحاملة ، التي سرعان ما ابتلعتها سيّارة إسعاف فخمة التفاصيل .

كانت سيّارة الإسعاف تخترق الزحام ، مُوَلولة كأمّ مثكولة توزّع صرخاتها في المكان ، و تنثر خلفها دموعها الممزوجة بماء المطر المُشبع بالأوحال التي نالت من كلّ العابرين . سيّارات و مُشاة .

داخل السيّارة المُولولة ، كانت كابي مُكبّلة بعشرات الألياف الكهربائيّة التي نقلت للموجودين أنّها سجّلت استفاقتين للقلب دون أيّ تنفّس و حرارة جسد مقبولة مُستغربة .

كانت الدهشة تلطم وجوه الكلّ و هم يواجهون أسئلة الأطباء عن حالة كابي . لم يكن هناك أيّ شيء قابل للاستنتاج من تعابير وجوه العائلة المنكوبة ، و لا حتى من كلماتها المفكّكة ، المُختلفة الروايات .

أكّد الأطباء من جهتهم على أنّ حالة كابي هي ما يُعرف بالغيبوبة // الكوما // التي لا يُعرف وقت لمفارقتها للمريض . إلا أنهم اختلفوا بشأن حالة القلب الغامضة .

في هذه الأثناء ، كانت ستيف ترمي بأسئلتها صمود السيّدة رندا و تكتّمها :

_ ” ماذا جرى لعمي ؟ لِمَ لَم يحضر معنا ؟ هل يُخفي عنّي شيء؟ إنّ انتكاسته غامضة ! صارحيني ، من سيأخُذ كابي ؟ ماذا تعرفون ؟ من حقّي أن أعلم كلّ شيء !! ” .

إلا أن رندا و بعد محاصرتها تماماً بأسئلة ستيف ذات الطبيعة الكونسيرتينيّة ، صرّحت بأن كلّ الأمر بيد زياد ، و عليه أن يحضر ليشرح ما يجري .

بقيت الأسئلة تتعارك داخل مخ ستيف ، و ظلت يديها تلاطم بعضها ، و تشتكي التعرّق المُضطرب ، و هي تحدّث نفسها بأن أوّل ما ستفعله حين شروق الشمس هو مُباغتة ذلك الرجل الغامض زياد ، ليشرح كلّ هذا الغموض اللعين .

 

اظهر المزيد

نافذ سمان

كاتب وروائي سوري الأصل يقيم في النرويج له خمس أعمال منفردة ( مجموعة قصصية ،ثلاث روايات وديوان نثري ) إضافة لثلاث كتب جماعية. له عديد المساهمات في المنظمات الانسانية والتربوية. كاتب مقالات رأي وصحفي في العديد من الصحف والصفحات العربية والنرويجية. صحفي لدى جريدة فيورنجن النرويجية.درس الصحة النفسية للطفل لدى جامعة هارفرد 2017. مجاز ليسانس في الحقوق 1999 وعمل كرئيس لقسم الجباية في سوريا لحوالي 11 عاماً.
زر الذهاب إلى الأعلى