
تناولت ستيف ما حضّرته لها الخادمة ببطء و بعيون مُعلّقة على الصحن ، مفتوحة حتى الدهشة ، بدأت تتمتم ، بعد صمت مُضجر، و كأنّها تُحدّث نفسها :
_ ” ربما هو غروري الموروث ما يجعلني أحسّ و كأن كلّ العيون مُسلّطة عليّ ، إلا أن ما يجري معي الآن لا يندرج قط تحت هذا المسمى ، فأحياناً استيقظ من نومي لإحساس يشدّني شدّاً لأن أواري جسدي تحت الغطاء . إحساس غريب ، و كأنّ الغرفة كلّها عيون كبيرة تراقب جسدي . أما عن التعرّي ، فأنا أقسم أنّني راقبتُ نفسي عدّة مرّات ، بل وصل بي الأمر لأن أُسجّل على ورقة تفاصيل ما أرتديه قبل النوم ، لأُصعق و إنا أستيقظ لأجد نفسي عارية تماماً .”
عندما رفعت ستيف رأسها تدحرجت دمعة كانت تتماوج في زرقة عينيها ، و كأن الأخيرة بحر بدأ ينزف . أما الدكتور أيمن ، فقد كان يحتضن رأسه بكفّيه الذين سدّا صيوانا أذنيه مُحاولاً منع الكلام أن يتسلل إلى مخّه . في حين كانت السيّدة رندا تحاول إشغال نفسها بأوامر كانت تلقيها على أسماع الخادمة التي بدأت تستعيذ بسرّها من هذا اليوم .
_ ” أسألك عماه . ماذا تفعل لو استيقظتَ من نومك و أنت عار من ثيابك التي سبق و ارتديتها ، بل ، و سبق أن سجّلت تفاصيلها في الليلة السابقة على قائمة ، و بألوان فاقعة ؟”
غارت عيون الدكتور أيمن داخل رأسه ، و العرق البارد بدأ ينبع من وجهه الذي علاه الاصفرار. أما ارتباك السيّدة رندا فقد شلها عن متابعة الخادمة التي انسلّت زئبقيّاً من أمام أنظار السيّدة التي تحطّمت على الكنبة المُجاورة .
فجأة استحال البيت الرحب إلى أضيق من سجن . كانت أنفاس الموجودين تتصادم بتوتّر ، و سرعان ما هبطت كالوحي على رأس أيمن فكرة ما ، فهرول لغرفته و خرج مرتدياً معطفه السميك ، و قد تشبّكت يديه بقفّازات جلديّة . قال ، وهو يعتمر قبّعة فرو روسيّة المنشأ :
_ ” إلى الجبل . سنتزلج على ثلج لبنان . أولللي !! ”
كانت صرخاته الفرِحة ، مدّ بحريّ غمر ارتباك الكلّ و شحوبهم .
رويداً ، بدأت جفون كابي تُعاود الحياة . و شيئاً فشيئاً بدأت الحركة تنتشر في خلايا جسدها المُنهك ، و سرعان ما زفّت إليها ستيف اقتراح عمّها ، وهي تجمع جسديهما بضمّة مُشتاقة . كانت الضمّة طويلة . كانت ستيف تدفع بجسدها نحو جسد توأمها ، و كأنّها تريد إدخال خلاياها بخلايا شقيقتها ، لتكشف كنه التعب الذي دفع عيني كابي للخارج ، و سحب لسانها و دفأها للداخل .
كانت العائلة صامتة ، و كأنّها تنتظر ولادة أولى كلمات كابي ، و بعد مخاض جمّد العيون و الأنفاس ، سقطت أولى كلمات كابي :
_ ” زارني . . . . يريدني . . . ”
ثم صمتت كابي ، و كأنّها تحدّث أحداً داخلها ، في حين كانت الأسرة تزداد جموداً ، و العم أيمن يزداد تعرّقاً و اختناقاً .
_ ” لا فائدة . . لا فائدة . . نعم . . ”
كلمات أخرى كان وقعها كالصاعقة ، شقّت قلبي العم أيمن و زوجته اللذان تبادلا نظرات سريعة ، ربطت ما بين عيني أيمن الجاحظة استفهاماً ، و عيون رندا المُنكرة كلّ ما قيل و يُقال .
* * * * * * *
انفلت جسد كابي من يدي ستيف ، لينهار أرضاً تحت أنظار أختها التي حاولت استعادة كابي من غيبوبتها ، أو في الأقل ، استعادة كلماتها لمُحاولة ترجمتها بشكلّ أفضل .
ريح سحريّة هبّت لتجمّد قلوب و حركات الكلّ . طارت الستائر المُرخاة على النوافذ المُغلقة ، و توزّع خَدَر في المكان . الشيء الذي دفع الخادمة لتصرخ بعفويّة جَزِعة مُطالبة بطبيب للفتاة التي بدا جسدها أثقل من أن تحمله أختها الشابة فارتمى أرضاً .
التصق العم أيمن بمكانه ، تماماً كالتصاق خلايا وجهه ببعضها مُبدية حياديّة لا يعلوها إلا رذاذ التعرّق البارد.
* * * * *
كان طلب سيّارة الإسعاف و انتظار صفّاراتها ، الحلّ الأفضل لقتل ما ارتاع منه الكلّ بعد نوبة الهلع التي انتابتهم .
دقائق طويلة كانت تلك التي تلت المُكالمة التي أجرتها السيّدة رندا ، و التي سبقت وصول سيّارات الإسعاف بأنوارها الحمراء و الزرقاء إلى منزل الدكتور أيمن . كانت الخادمة قد ترأّست الدرج ، لتهرول أمام الممرضين ، الذين سرعان ما أدخلوا أجهزتهم الفاحصة ، ليرموا الدكتور بمعلومة قاتلة // القلب متوقف ، دكتور . لا تنفس .الضغط في مُعدّلاته المُميتة .لا دليل على وجود الحياة ، اللهم إلا الحرارة التي مازالت تحوم بغرابة حول معدّلاتها . //
كُبّل جسد الفتاة الغضّ على الحاملة ، التي سرعان ما ابتلعتها سيّارة إسعاف فخمة التفاصيل .
كانت سيّارة الإسعاف تخترق الزحام ، مُوَلولة كأمّ مثكولة توزّع صرخاتها في المكان ، و تنثر خلفها دموعها الممزوجة بماء المطر المُشبع بالأوحال التي نالت من كلّ العابرين . سيّارات و مُشاة .
داخل السيّارة المُولولة ، كانت كابي مُكبّلة بعشرات الألياف الكهربائيّة التي نقلت للموجودين أنّها سجّلت استفاقتين للقلب دون أيّ تنفّس و حرارة جسد مقبولة مُستغربة .
كانت الدهشة تلطم وجوه الكلّ و هم يواجهون أسئلة الأطباء عن حالة كابي . لم يكن هناك أيّ شيء قابل للاستنتاج من تعابير وجوه العائلة المنكوبة ، و لا حتى من كلماتها المفكّكة ، المُختلفة الروايات .
أكّد الأطباء من جهتهم على أنّ حالة كابي هي ما يُعرف بالغيبوبة // الكوما // التي لا يُعرف وقت لمفارقتها للمريض . إلا أنهم اختلفوا بشأن حالة القلب الغامضة .
في هذه الأثناء ، كانت ستيف ترمي بأسئلتها صمود السيّدة رندا و تكتّمها :
_ ” ماذا جرى لعمي ؟ لِمَ لَم يحضر معنا ؟ هل يُخفي عنّي شيء؟ إنّ انتكاسته غامضة ! صارحيني ، من سيأخُذ كابي ؟ ماذا تعرفون ؟ من حقّي أن أعلم كلّ شيء !! ” .
إلا أن رندا و بعد محاصرتها تماماً بأسئلة ستيف ذات الطبيعة الكونسيرتينيّة ، صرّحت بأن كلّ الأمر بيد زياد ، و عليه أن يحضر ليشرح ما يجري .
بقيت الأسئلة تتعارك داخل مخ ستيف ، و ظلت يديها تلاطم بعضها ، و تشتكي التعرّق المُضطرب ، و هي تحدّث نفسها بأن أوّل ما ستفعله حين شروق الشمس هو مُباغتة ذلك الرجل الغامض زياد ، ليشرح كلّ هذا الغموض اللعين .