
عادت الحياة فجأة لشقة السيّد زياد و لذاكرته . نفض الغبار عن أحد الأقفال التي أرتُجت بعناية بخيل . سحب من داخل الخزانة ، المركونة بزاوية مكتبه ، عدّة مصنّفات من الأوراق التي بدأ الأصفر يتغلغل بأطرافها .
كان مكتبه يبدو كئيباً ، قد سقطت كلّ اللوحات و الصور عن جدرانه . لوحات فنيّة عالية المستوى لنساء عاريات ، و وجوه جميلة . و صور لزياد تجمعه مع نجوم المجتمع ، سياسة و اقتصاد و فن .
ابتلع ريقه أكثر من مرّة ، قبل أن يخمد النور الخافت الذي يُعارك أشعة الشمس المُنسلّة من باب الغرفة ، و يغلق الباب خلفه .
كان يُبدّل ملابسه ، و الذكريات تنهمر عليه .
تعرّفتُ على مالك من خلال زيارات الأخير المُتكرّرة إلى كليّة الطب ، حيث كان يأتي ليزور أخاه أيمن ، زميلي في الكليّة . و كان من الطبيعي أن أتعرّف عليه و هو أخ زميلي وصديق دراستي الجامعيّة . و بما أنّني كنتُ أكبُرُ أيمن بعدّة سنوات سبقتني أثناء عملي الدائم و رعايتي لأسرتي ، فقد جمعتني السنون والكفاح و الأحلام الواسعة الطيف مع مالك ، و أصبح مالك ( أخو صديقي ) .
تعذّب مالك مع خالته زوجة أبيه ، التي حلّت مكان والدته المتوفّاة . كان عليه رعاية أخيه أيمن و أخته فتون ، ثم فرضت عليه زوجة أبيه أن يعمل و يُدخل للمنزل نقوداً تساعد والده بحمل العبء الذي زاد مع زيادة إنجابها للأطفال بشكل سنويّ مُقيت .
بدأ نبوغ مالك بداية بإصلاحه المعدّات الكهربائيّة المُعقّدة ، و تفنّن في تصنيع الدارات الالكترونيّة ، و قد صَقَلَت خدمته العسكريّة مهاراته بالأجهزة اللاسلكيّة ، و أصبح مرجعاً بتلك المسائل .
كبُرَ أيمن ، و تزوجتُ أنا فتون ، فتون الحبيبة الدافئة ، سُرقت مني قبل أن تهبني طفلي الذي سَمّيته قبل أن أراه ، و ملأتُ له البيت بالهدايا و علب الحليب المُجفّف ، و الثياب التي ما تزال مشنوقة في خزانته التي لم يفتحها أحد قط .
رحلت فتون ، و طار مالك إلى بلاد الغربة ثم عاد بعد أن حملتني موهبتي إلى مجال السينما و التلفزيون .عاد بضجّة سبقت قدومه ، كانت فتوحاته العلميّة قد جعلته يُحترم بكلّ الأوساط . وجد في ماريّا ما كان يحلم به ، و وهبته تلك ستيفاني وكابرييل ،التوأم الرائع .
صحا زياد من استرجاعاته و الدموع تغسل لحيته التي تركها لتتطاول شعراتها دونما تشذيب .
كان عليه أن يترك الفيلا بعد تلك الأحداث اللعينة ، و الآن ، يبدو أن الوقت قد حان لإطلاع البنات على الحقيقة التي ستقلب حياة الكلّ ، و إلى الأبد .
* * * * * *
نفخت رندا دخان سيكارتها ، وهي تضغط على الزرّ الخاص بإخراج الروائح من السيّارة . كانت أصابعها تنقر بتوتّرعلى المقود .
_ ” و ما هذا اليوم الهارب من الجحيم ! و ما لي أنا و مشكلات بنات ماريّا تلك ! أذكر أنّني قد قابلتها لمرّة واحدة فقط ، كنتُ قد رافقت أيمن لفيلتها في إطار حملة تعرّفي على أقارب زوجي المستقبليّ . طبعاً كانت كلّ الأضواء مُسلّطة على ماريّا . الحامدة منها و الحاقدة . كان ذلك اللقاء قبيل هروبها لأوربا تاركة طفلتيها بإهمال ما اعتدناه في شرقنا النائم في حضن الأسرة الدافئ .
يومها تفاجأتُ ، وأنا المتوقّعة أن أرى شقراء ساذجة ترتدي المايوه وتُحاذي المسبح ، باحثةً عن اللون البرونزيّ الذي يسلب لبّ سكان تلك المناطق التي لا ترى الشمس كثيراً .
رأيتها وهي ترتدي جلبابا تونسيّاً مُزركشاً ، تحضن بإصبعيها سيكارة طويلة بعض الشيء . كانت تمسك بعدّة كتب بآن واحد وهي تُحدّثنا بعربيّتها الركيكة . أدهشتني بما تحمله من تناقضات ، و بالإعجاب الذي لمحته في نظرات أيمن المُنحنية أمامها . الشيء الذي جعلني ، فيما بعد ، أُحرق كلّ ما تحويه ذاكرة أيمن من خيوط قد تشكلّ صورة أو فعل ما يجمعه بتلك الأوربيّة المُستشرقة . و الحمد لله رحلت بشكلّ سريع ، و صادم ! وللحقيقة ، فان غياب العم أيمن لم يشكلّ لبناتها ذلك الكسر الذي لا يُجبر. فقد كان وجود زياد كافياً ، و شاغلاً لمكان أيمن ، و لم يكن أيمن ليُفلح قط بما قام به زياد . ذاك الزياد ، الذي سمعتُ عن تقلّبه بمتاع الدنيا ، وشخصيته المُلتهبة التي تهبُها شمس برج الأسد مسحةً باذخة الطباع ، و قط لم يتصور أحداً أن مساره سينكسر بهذا الشكلّ ويعتزل الدنيا ، كلّ الدنيا ، حتى توأم صديقه المُحبّب مالك ، تركهما ، وأعلن أنهما بأمان من دونه .
تركة كبيرة و ثقيلة تلك التي ترَكتِها خلفك يا ماريّا هيرنان .
توقّفت رندا عند مدخل البناء الذي يحوي شقّتها ، بعد أن ركنت سيّارتها في مكانها المُخصّص . تسمّرت عينيها و هي تهمس لنفسها :
_ ” هل أنتِ في طريقك لأن تفقدي عقلك ، كوالدك ، يا ابنة ماريّا ؟؟ ”
مسحة من الارتباك رافقت رندا وهي تعتلي الدرج الرخاميّ الذي يوصل الطابق الأول بباب البناء ، الذي تعتليه قطعة نحاسيّة تدل على منزل الدكتور الطبيب أيمن المهدي .
* * * * *
تنفّس أيمن الصعداء عندما صفقت رندا باب الشقة خلفها ،إلا أنّها بادرته غاضبة :
_ ” و لمَ زياد بالتحديد ؟؟ سيزرع الآن خرافاته و تخيّلاته و أشيائه الغبيّة المُخيفة بعقول البنات الغضّة . و ما ذنبهما ليُلوثهما زياد بأوهامه و قصصه تلك ؟؟ ”
_ ” رندا !! ربما ترينها أوهام و تجدها البنات حقيقة تفسّر لهما كلّ ما هو غامض بطفولتهما . في الأقل ، لإنقاذ أمّهما من براثن التهم الجائرة التي التصقت بها دون أن تستطع أن تدافع عن نفسها .”
شطر جرس الباب حديثهما مُعلناً وصول ستيفاني .
لم تكن ستيف ، المرحة إلى حد الاستهتار على طبيعتها ، لقد تسمّرت عينيها المُحملقتين بوسط وجهها المُصفرّ لدرجة المرض .
مُرهقة ارتمت على أختها ، بعد أن رمت تحية سريعة على عمها و زوجه ، بدأت تحضن ستيف توأمها و توزّع القبلات على جسدها ، دون أن تسأل عن سبب مجيء أختها إلى هنا على غير العادة ، أو عن سبب استسلامها للنوم بهذا الشكلّ ، و هي المعروفة بنومها الخفيف .
أوعزت السيّدة رندا للخادمة التي وصلت لتوّها ، أن تحمل فوارغ ليلة البارحة ، و تحضّر وجبة خفيفة لستيف ، التي لم تُعلّق بأيّ كلمة .