روايات و قصص

إنهم يخفون شيئاً \ يوم هارب من الجحيم

الحلقة السابعة \ نافذ سمان

 

 

عادت الحياة فجأة لشقة السيّد زياد و لذاكرته . نفض الغبار عن أحد الأقفال التي أرتُجت بعناية بخيل . سحب من داخل الخزانة ، المركونة بزاوية مكتبه ، عدّة مصنّفات من الأوراق التي بدأ الأصفر يتغلغل بأطرافها .

كان مكتبه يبدو كئيباً ، قد سقطت كلّ اللوحات و الصور عن جدرانه . لوحات فنيّة عالية المستوى لنساء عاريات ، و وجوه جميلة . و صور لزياد تجمعه مع نجوم المجتمع ، سياسة و اقتصاد و فن .

ابتلع ريقه أكثر من مرّة ، قبل أن يخمد النور الخافت الذي يُعارك أشعة الشمس المُنسلّة من باب الغرفة ، و يغلق الباب خلفه .

كان يُبدّل ملابسه ، و الذكريات تنهمر عليه .

تعرّفتُ على مالك من خلال زيارات الأخير المُتكرّرة إلى كليّة الطب ، حيث كان يأتي ليزور أخاه أيمن ، زميلي في الكليّة . و كان من الطبيعي أن أتعرّف عليه و هو أخ زميلي وصديق دراستي الجامعيّة . و بما أنّني كنتُ أكبُرُ أيمن بعدّة سنوات سبقتني أثناء عملي الدائم و رعايتي لأسرتي ، فقد جمعتني السنون والكفاح و الأحلام الواسعة الطيف مع مالك ، و أصبح مالك ( أخو صديقي ) .

تعذّب مالك مع خالته زوجة أبيه ، التي حلّت مكان والدته المتوفّاة . كان عليه رعاية أخيه أيمن و أخته فتون ، ثم فرضت عليه زوجة أبيه أن يعمل و يُدخل للمنزل نقوداً تساعد والده بحمل العبء الذي زاد مع زيادة إنجابها للأطفال بشكل سنويّ مُقيت .

بدأ نبوغ مالك بداية بإصلاحه المعدّات الكهربائيّة المُعقّدة ، و تفنّن في تصنيع الدارات الالكترونيّة ، و قد صَقَلَت خدمته العسكريّة مهاراته بالأجهزة اللاسلكيّة ، و أصبح مرجعاً بتلك المسائل .

كبُرَ أيمن ، و تزوجتُ أنا فتون ، فتون الحبيبة الدافئة ، سُرقت مني قبل أن تهبني طفلي الذي سَمّيته قبل أن أراه ، و ملأتُ له البيت بالهدايا و علب الحليب المُجفّف ، و الثياب التي ما تزال مشنوقة في خزانته التي لم يفتحها أحد قط .

رحلت فتون ، و طار مالك إلى بلاد الغربة ثم عاد بعد أن حملتني موهبتي إلى مجال السينما و التلفزيون .عاد بضجّة سبقت قدومه ، كانت فتوحاته العلميّة قد جعلته يُحترم بكلّ الأوساط . وجد في ماريّا ما كان يحلم به ، و وهبته تلك ستيفاني وكابرييل ،التوأم الرائع .

صحا زياد من استرجاعاته و الدموع تغسل لحيته التي تركها لتتطاول شعراتها دونما تشذيب .

كان عليه أن يترك الفيلا بعد تلك الأحداث اللعينة ، و الآن ، يبدو أن الوقت قد حان لإطلاع البنات على الحقيقة التي ستقلب حياة الكلّ ، و إلى الأبد .

 

*     *     *     *     *       *

نفخت رندا دخان سيكارتها ، وهي تضغط على الزرّ الخاص بإخراج الروائح من السيّارة . كانت أصابعها تنقر بتوتّرعلى المقود .

_ ” و ما هذا اليوم الهارب من الجحيم ! و ما لي أنا و مشكلات  بنات ماريّا تلك ! أذكر أنّني قد قابلتها لمرّة واحدة فقط ، كنتُ قد رافقت أيمن لفيلتها في إطار حملة تعرّفي على أقارب زوجي المستقبليّ . طبعاً كانت كلّ الأضواء مُسلّطة على ماريّا . الحامدة منها و الحاقدة . كان ذلك اللقاء قبيل هروبها لأوربا تاركة طفلتيها بإهمال ما اعتدناه في شرقنا النائم في حضن الأسرة الدافئ .

يومها تفاجأتُ ، وأنا المتوقّعة أن أرى شقراء ساذجة ترتدي المايوه وتُحاذي المسبح ، باحثةً عن اللون البرونزيّ الذي يسلب لبّ سكان تلك المناطق التي لا ترى  الشمس كثيراً .

رأيتها وهي  ترتدي جلبابا تونسيّاً مُزركشاً ، تحضن بإصبعيها سيكارة طويلة بعض الشيء . كانت تمسك بعدّة كتب بآن واحد وهي تُحدّثنا بعربيّتها الركيكة . أدهشتني بما تحمله من تناقضات ، و بالإعجاب الذي لمحته في نظرات أيمن المُنحنية أمامها . الشيء الذي جعلني ، فيما بعد ، أُحرق كلّ ما تحويه ذاكرة أيمن من خيوط قد تشكلّ صورة أو فعل ما يجمعه بتلك الأوربيّة المُستشرقة . و الحمد لله رحلت بشكلّ سريع ، و صادم ! وللحقيقة ، فان غياب العم أيمن لم يشكلّ لبناتها ذلك الكسر الذي لا يُجبر. فقد كان وجود زياد كافياً ، و شاغلاً لمكان  أيمن ، و لم يكن أيمن ليُفلح قط بما قام به زياد . ذاك الزياد ، الذي سمعتُ عن تقلّبه بمتاع الدنيا ، وشخصيته المُلتهبة التي تهبُها شمس برج الأسد مسحةً باذخة الطباع ، و قط لم يتصور أحداً أن مساره سينكسر بهذا الشكلّ ويعتزل الدنيا ، كلّ الدنيا ، حتى توأم صديقه المُحبّب مالك ، تركهما ، وأعلن أنهما بأمان من دونه .

تركة كبيرة و ثقيلة تلك التي ترَكتِها خلفك يا ماريّا هيرنان .

توقّفت رندا عند مدخل البناء الذي يحوي شقّتها ، بعد أن ركنت سيّارتها في مكانها المُخصّص . تسمّرت عينيها و هي تهمس لنفسها :

_ ” هل أنتِ في طريقك لأن تفقدي عقلك ، كوالدك ، يا ابنة ماريّا ؟؟  ”

مسحة من الارتباك رافقت رندا وهي تعتلي الدرج الرخاميّ الذي يوصل الطابق الأول بباب البناء ، الذي تعتليه قطعة نحاسيّة تدل على منزل الدكتور الطبيب أيمن المهدي .

*      *      *      *      *

 

تنفّس أيمن الصعداء عندما صفقت رندا باب الشقة خلفها ،إلا أنّها بادرته غاضبة  :

_ ” و لمَ زياد بالتحديد ؟؟ سيزرع الآن خرافاته و تخيّلاته و أشيائه الغبيّة المُخيفة بعقول البنات الغضّة . و ما ذنبهما ليُلوثهما زياد بأوهامه و قصصه تلك ؟؟ ”

_ ” رندا !! ربما ترينها أوهام و تجدها البنات حقيقة تفسّر لهما كلّ ما هو غامض بطفولتهما . في الأقل ، لإنقاذ أمّهما من براثن التهم الجائرة التي التصقت بها دون أن  تستطع أن تدافع عن  نفسها .”

شطر جرس الباب حديثهما مُعلناً وصول ستيفاني .

لم تكن ستيف ، المرحة إلى حد الاستهتار على طبيعتها ، لقد تسمّرت عينيها المُحملقتين بوسط وجهها المُصفرّ لدرجة المرض .

مُرهقة ارتمت على أختها ، بعد أن رمت تحية سريعة على عمها و زوجه ، بدأت تحضن ستيف توأمها و توزّع القبلات على جسدها ، دون أن تسأل عن سبب مجيء أختها إلى هنا على غير العادة ، أو عن سبب استسلامها للنوم بهذا الشكلّ ، و هي المعروفة بنومها الخفيف .

أوعزت السيّدة رندا للخادمة التي وصلت لتوّها ، أن تحمل فوارغ ليلة البارحة ، و تحضّر وجبة خفيفة لستيف ، التي لم تُعلّق بأيّ كلمة .

 

 

اظهر المزيد

نافذ سمان

كاتب وروائي سوري الأصل يقيم في النرويج له خمس أعمال منفردة ( مجموعة قصصية ،ثلاث روايات وديوان نثري ) إضافة لثلاث كتب جماعية. له عديد المساهمات في المنظمات الانسانية والتربوية. كاتب مقالات رأي وصحفي في العديد من الصحف والصفحات العربية والنرويجية. صحفي لدى جريدة فيورنجن النرويجية.درس الصحة النفسية للطفل لدى جامعة هارفرد 2017. مجاز ليسانس في الحقوق 1999 وعمل كرئيس لقسم الجباية في سوريا لحوالي 11 عاماً.
زر الذهاب إلى الأعلى