روايات و قصص

إنهم يخفون شيئاً \ الأب البديل

الحلقة الخامسة \ نافذ سمان

 

مرّت دقائق بطيئة الجريان ، كان أيمن يهذي بأشياء و يبتلع أخرى .

كانت ساعاتٌ مُبكّرة وباردة من ذلك الصباح التشرينيّ كريم المطر .

كانت شقة أيمن تحمل بناء حديثاً يتوسط ذاك الشارع المزدحم و المدعو أوتستراد العدويّ . أتراه فضّل الارتماء بين زحام المدينة هرباً من خيالات الماضي ؟؟

_ ” و لمَ ؟؟ ”

بصقها أيمن مُحتجّاً .

_ ” لمَ أنا بالذات ؟؟  لمَ أنا دون الكلّ من اصطبغت يداي بسواد تلك المرحلة ؟ كان أخي مالك المُحبّب إليّ ، و كنتُ المقرّب إليه، لم يُنازعني بمكانتي تلك إلا زياد ، صديقه الطبيب ، مُخرج السينما المعروف ، و الذي  انحرف اتجاهه بشكل كاسر و حادّ جدّاً في الآونة الأخيرة . كان ذلك في زمن الهزّات التي اعترت الكلّ ، كان الأمر أشبه بلعنة لاحقت كلّ من يتصل بالأمر ، في تلك السنة توفّي أخي ، و اختفت بعده ماريّا . تطوّع زياد مشكوراً ، لرعاية أطفال مالك ، إلا أنّه ترك الحياة الفنيّة و الاجتماعيّة فجأة .أدّى العمرة ، ترك الفتاتان في الفيلا وحدهما،وانعزل .

بعد اختفاء ماريّا اجتمعتُ معه . قال لي وهو الأعزب ، أنّه لن يُحرجني و أنا المُقترنُ حديثاً برندا ، و سيتولّى بدلاً عنّي رعاية التوأم بعد أن تركتهما أمهما ، و فعلاً انتقل مع خدمه إلى الفيلا. لَم ، و لن ، أشكّ مُطلقاً بعاطفته النبيلة لهما ، أو بجهوده التي  بذلها و سيبذلها لرعاية ابنتيّ أخي ، و ربّما بشكلّ أفضل مما سأفعله أنا . ثم ، هو ليس قطّ بغريب عن العائلة ، فهو زوج أختي فتون ، التي سبق و أغتالها المرض بعد أن تمكّن منها و جنينها . بقي زياد مُحبّاً لها ، مُحتفظاً بذكرى ابنه الذي  لم يره قط .

احتضن زياد التوأم . و كان أباً ، و صديقاً ، و توأماً .

كان عليّ أن أمرّ بين الحين و الآخر ، لأطمئن على أحوال الكلّ ،  لكني لم أفعل إلا مُتأخراً ، لكن الأمر وقتها كان رائعاً .

عندما دخلتُ يومها الفيلا ، وجدتُ زياد – مخرجنا المعروف و طبيبنا اللامع – مُقرفِصَاً على الأرض ، يحمل ستيف على ظهره ، وكابي تستحثّه على متابعة اللعبة ، التي بدت أنها قد نالت منه تماماً .

ملأ وجود التوأم فراغ زياد العاطفيّ . نقل إليهما هدايا ابنه التي لم يلعب بها مُطلقاً ، و احتفل معهما بعيد ميلاد سعادته التي لم يتجرّع منها الكثير ، على العكس من تلك الكحول اللعينة  التي بدأت ، مع وجود التوأم في حياة زياد ، تجد انخفاضاً تدريجيّاً من سيطرتها على خلاياه المُثقلة بالصدمات . فقد رحل والده مُبكّراً ، تاركاً له ثلاث بنات و أمهنّ .حارب من أجلهنّ . زوّجهن . و لكنّ أمّه لم تنتظر لتزوّجه ، فرحلت هي الأخرى بحادث حصد روحها إضافة لأخته الصغرى و ابنة عمه – خطيبته مَلَك . كان مُحَطّمَاً حين فاتحه مالك برغبة الأخير بأن يهب له أخته فتون ، اليانعة كتفاحة ، الهادئة كابتسامة ، الدافئة كقلب الطفل . احتضنت فتون زياد ، وجعلته سيّدها و أميرها ، فنسي زياد كلّ جروحه ، إلا أن القدر كان يلاحقه حتى باب منزله ، فاغتال السرطان زوجته و ابنه ، ذاك الذي كم يشتاق إليه الآن و كلّ حين ، و كم يحنّ لأمه .

عندما رافقتهُ بجولة في أرجاء الفيلا ، لفت نظري إلى ذاك الإطار الذي أوعز بحفره حول رخام صورة ماريّا . لا أدري لمَ فعل ذلك لكنه كان سعيداً بذلك . في تلك الجولة لمحت بكلامه بعض الأشياء التي أراد أن يلمّح إليها لكني لم أرد أن أسأله . ظننتُ وقتها أنه سيشكو لي شقاوة التوأم مثلاً ، أو أشياء كهذه . لم أكن قط في وضع يسمح لي بأن أُناقش هذه الأشياء ، وأنا المشغول بعَروسي و مشاكلي الخاصّة .

عندما قررتُ الزواج من رندا ، كانت المشاكلّ في أَوجها ، فماريّا فرّت من ثقل الحِمل و ضغط المجتمع ، و المشكلات التي تراكمت عليها . كان عليّ في تلك الظروف ، مواجهة أسرتي  بزواجي من فتاة مُتحرّرة مُثقّفة كرندة ابنة عمتي ، و التي لا تحمل الكثير من الودّ لأسرتي الكريمة .

طردوني و إيّاها ، في تلك الأثناء ، من منزلهم الكبير ، و من حياتهم ككلّ . تعبت معي رندا كثيراً . صبرنا كثيراً . و حاربنا كثيراً حتى رسمنا أنفسنا على الخارطة . لم أُولد هكذا دكتور جامعة و طبيب معروف . عندما تخرّجتُ من كليّة الطب مازحتني لؤماً ، أمّي ، أو لنقل ، خالتي  زوجة أبي ، قائلة أنّ صُحبتي لأخي مالك قد نفعتني . كادت تنفجّر غيظاً . كيف لا ؟ و أولادها أقرب إلى التخلف العقليّ . كانت تنتظر ، بعد أن انتهى أخي مالك عَمَليّاً ، أن  تنهيني ، و راهَنَت على  فشل علاقتي مع رندا بسبب بنات مالك .

هذا دَينٌ برقبتي لزياد . تلك الشمطاء بقيت تتبجّح بأنها قد سلّطت على ماريّا أعمالها الشرّيرة و الأرواح الفاسدة  . سخفٌ و حقدٌ و تفاهة .

 

 

 

اظهر المزيد

نافذ سمان

كاتب وروائي سوري الأصل يقيم في النرويج له خمس أعمال منفردة ( مجموعة قصصية ،ثلاث روايات وديوان نثري ) إضافة لثلاث كتب جماعية. له عديد المساهمات في المنظمات الانسانية والتربوية. كاتب مقالات رأي وصحفي في العديد من الصحف والصفحات العربية والنرويجية. صحفي لدى جريدة فيورنجن النرويجية.درس الصحة النفسية للطفل لدى جامعة هارفرد 2017. مجاز ليسانس في الحقوق 1999 وعمل كرئيس لقسم الجباية في سوريا لحوالي 11 عاماً.
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى