
مرّت دقائق بطيئة الجريان ، كان أيمن يهذي بأشياء و يبتلع أخرى .
كانت ساعاتٌ مُبكّرة وباردة من ذلك الصباح التشرينيّ كريم المطر .
كانت شقة أيمن تحمل بناء حديثاً يتوسط ذاك الشارع المزدحم و المدعو أوتستراد العدويّ . أتراه فضّل الارتماء بين زحام المدينة هرباً من خيالات الماضي ؟؟
_ ” و لمَ ؟؟ ”
بصقها أيمن مُحتجّاً .
_ ” لمَ أنا بالذات ؟؟ لمَ أنا دون الكلّ من اصطبغت يداي بسواد تلك المرحلة ؟ كان أخي مالك المُحبّب إليّ ، و كنتُ المقرّب إليه، لم يُنازعني بمكانتي تلك إلا زياد ، صديقه الطبيب ، مُخرج السينما المعروف ، و الذي انحرف اتجاهه بشكل كاسر و حادّ جدّاً في الآونة الأخيرة . كان ذلك في زمن الهزّات التي اعترت الكلّ ، كان الأمر أشبه بلعنة لاحقت كلّ من يتصل بالأمر ، في تلك السنة توفّي أخي ، و اختفت بعده ماريّا . تطوّع زياد مشكوراً ، لرعاية أطفال مالك ، إلا أنّه ترك الحياة الفنيّة و الاجتماعيّة فجأة .أدّى العمرة ، ترك الفتاتان في الفيلا وحدهما،وانعزل .
بعد اختفاء ماريّا اجتمعتُ معه . قال لي وهو الأعزب ، أنّه لن يُحرجني و أنا المُقترنُ حديثاً برندا ، و سيتولّى بدلاً عنّي رعاية التوأم بعد أن تركتهما أمهما ، و فعلاً انتقل مع خدمه إلى الفيلا. لَم ، و لن ، أشكّ مُطلقاً بعاطفته النبيلة لهما ، أو بجهوده التي بذلها و سيبذلها لرعاية ابنتيّ أخي ، و ربّما بشكلّ أفضل مما سأفعله أنا . ثم ، هو ليس قطّ بغريب عن العائلة ، فهو زوج أختي فتون ، التي سبق و أغتالها المرض بعد أن تمكّن منها و جنينها . بقي زياد مُحبّاً لها ، مُحتفظاً بذكرى ابنه الذي لم يره قط .
احتضن زياد التوأم . و كان أباً ، و صديقاً ، و توأماً .
كان عليّ أن أمرّ بين الحين و الآخر ، لأطمئن على أحوال الكلّ ، لكني لم أفعل إلا مُتأخراً ، لكن الأمر وقتها كان رائعاً .
عندما دخلتُ يومها الفيلا ، وجدتُ زياد – مخرجنا المعروف و طبيبنا اللامع – مُقرفِصَاً على الأرض ، يحمل ستيف على ظهره ، وكابي تستحثّه على متابعة اللعبة ، التي بدت أنها قد نالت منه تماماً .
ملأ وجود التوأم فراغ زياد العاطفيّ . نقل إليهما هدايا ابنه التي لم يلعب بها مُطلقاً ، و احتفل معهما بعيد ميلاد سعادته التي لم يتجرّع منها الكثير ، على العكس من تلك الكحول اللعينة التي بدأت ، مع وجود التوأم في حياة زياد ، تجد انخفاضاً تدريجيّاً من سيطرتها على خلاياه المُثقلة بالصدمات . فقد رحل والده مُبكّراً ، تاركاً له ثلاث بنات و أمهنّ .حارب من أجلهنّ . زوّجهن . و لكنّ أمّه لم تنتظر لتزوّجه ، فرحلت هي الأخرى بحادث حصد روحها إضافة لأخته الصغرى و ابنة عمه – خطيبته مَلَك . كان مُحَطّمَاً حين فاتحه مالك برغبة الأخير بأن يهب له أخته فتون ، اليانعة كتفاحة ، الهادئة كابتسامة ، الدافئة كقلب الطفل . احتضنت فتون زياد ، وجعلته سيّدها و أميرها ، فنسي زياد كلّ جروحه ، إلا أن القدر كان يلاحقه حتى باب منزله ، فاغتال السرطان زوجته و ابنه ، ذاك الذي كم يشتاق إليه الآن و كلّ حين ، و كم يحنّ لأمه .
عندما رافقتهُ بجولة في أرجاء الفيلا ، لفت نظري إلى ذاك الإطار الذي أوعز بحفره حول رخام صورة ماريّا . لا أدري لمَ فعل ذلك لكنه كان سعيداً بذلك . في تلك الجولة لمحت بكلامه بعض الأشياء التي أراد أن يلمّح إليها لكني لم أرد أن أسأله . ظننتُ وقتها أنه سيشكو لي شقاوة التوأم مثلاً ، أو أشياء كهذه . لم أكن قط في وضع يسمح لي بأن أُناقش هذه الأشياء ، وأنا المشغول بعَروسي و مشاكلي الخاصّة .
عندما قررتُ الزواج من رندا ، كانت المشاكلّ في أَوجها ، فماريّا فرّت من ثقل الحِمل و ضغط المجتمع ، و المشكلات التي تراكمت عليها . كان عليّ في تلك الظروف ، مواجهة أسرتي بزواجي من فتاة مُتحرّرة مُثقّفة كرندة ابنة عمتي ، و التي لا تحمل الكثير من الودّ لأسرتي الكريمة .
طردوني و إيّاها ، في تلك الأثناء ، من منزلهم الكبير ، و من حياتهم ككلّ . تعبت معي رندا كثيراً . صبرنا كثيراً . و حاربنا كثيراً حتى رسمنا أنفسنا على الخارطة . لم أُولد هكذا دكتور جامعة و طبيب معروف . عندما تخرّجتُ من كليّة الطب مازحتني لؤماً ، أمّي ، أو لنقل ، خالتي زوجة أبي ، قائلة أنّ صُحبتي لأخي مالك قد نفعتني . كادت تنفجّر غيظاً . كيف لا ؟ و أولادها أقرب إلى التخلف العقليّ . كانت تنتظر ، بعد أن انتهى أخي مالك عَمَليّاً ، أن تنهيني ، و راهَنَت على فشل علاقتي مع رندا بسبب بنات مالك .
هذا دَينٌ برقبتي لزياد . تلك الشمطاء بقيت تتبجّح بأنها قد سلّطت على ماريّا أعمالها الشرّيرة و الأرواح الفاسدة . سخفٌ و حقدٌ و تفاهة .