أولاد حارتنا .. ضدّ الدين أم معه؟
رواية أولاد حارتنا للأديب العالمي نجيب محفوظ .. عرض ونقد

بقلم : حسام الدين عوض
يوم حدّثني مُحدّثي -قبل سنوات- عن رواية (أولاد حارتنا) لـ “نجيب محفوظ”، قائلًا لي إنّها سببُ حُصُولِه على نوبل، لأنّها تطعنُ في الأديان، وتنتقصُ من الأنبياء والمرسلين ..!
كنتُ أحسبُها -يومَها- روايةً تقومُ على إنكار الألوهية والنبوات، حتى تيسّر لي أن أقرأها بنفسي قبل أيام، فعرفتُ أنّ مُحَدِّثي لم يقرأها، بل كان ينقلُ مايسمعُ، ويُحدِّثُ الناسَ بما لايعرِف.
تنقسمُ الروايةُ إلى خمسة فصول على النحو التالي ..
الفصلُ الأول: بعنوان أدهم، ويستغرق الصفحات من 10 وحتى 112
الفصلُ الثاني: جَبَل، في الصفحات من 115 وحتى 210
الفصلُ الثالث: رِفَاعَة، الصفحات من 213 وحتى 305
الفصلُ الرابع: قَاسِم، الصفحات من 309 وحتى 443
وأخيرًا .. الفصلُ الخامس: بعنوان عَرَفَة، الصفحات من 447 وحتى نهاية الرواية 552
الروايةُ -باختصار- تناقشُ قضية العدالة المُغيّبة خلف أسر الاستبداد والظلم، والتي لم يُتح لها أن تسود على امتداد التاريخ الإنساني كله، اللهم إلا في فتراتٍ محدودةٍ ومعدودةٍ، هي الفتراتُ التي بُعِثَ فيها الرسلُ -عليهم السلام-.
ثمّ بعد انقطاع الوحي الإلهيّ، ولَّى الناسُ الوجوهَ قِبَلَ المشرِقِ والمغرب، والتمسوا العلم والمعرفة التي تمثلت في شخص “عرفة” طريقًا لتحصيل العدل والعدالة، إلا أنّ الطغاة والبغاة كانوا أسرع في توظيف “عرفة” لخدمة مصالحهم وامتيازاتهم.
وكأنّ المؤلف أراد أن يقول من خلال النهاية المفتوحة لروايته: لا يجدرُ بنا أن نتوجّه إلى الله كي يرسلَ آخرين لتكريسِ العدالة، بل صار لزامًا علينا نحنُ أن نصنعها بأنفسنا، وأن نفعل مافعله غيرُنا.
هذا هو ماقاله محفوظ، من خلال عرضه للحارة المصرية، أو .. للحالة المصرية، ومن ثَمّ للمعضلة الإنسانيةُ برُمّتِهَا.
بكل مافيها من تناقضات، وبكل مايعتريها من مظالم وظلمات، هي إذن -شأنها شأن أعمال محفوظ- روايةٌ تنتمي إلى المدرسة الواقعية، لا إلى السُريالية فضلًا عن الرومانسية الخيالية.
والواقعيّةُ ليست هي الدين .. وإنّما هي الحياةُ التي يشغلُ الدين والمتدينون بقضّهم وقضيضهم، جانبًا ضئيلًا جدًا منها، فيما يغلبُ عليها كلُّ ما لايمتُّ للدين بصلة!
صحيحٌ أنّ الرواية لاتخلو من التعرض لأمور الغيب، ولقضايا الدين، ولمسائل الجبر والاختيار، والقضاء والقدر، بقَدْرٍ كبير من الجرأة والتجاسر، لكنّها ليست مُناقِضَةً للأديان كما زَعَمَ الزاعمون، وتوهّم -على غير أثارة من يقين- المُتخَرِّصُون.
قال المعارض: بل قرأنا الرواية، ووقفنا على مافيها من التعريض بالأنبياء والمرسلين، بل ومن الاستهزاء بالله تعالى ذاته!
فالرواية لا تقتصرُ على استخدامِ الرمزِ البعيد الغامض المُبهَم الذي قد يخفى على البعض، بل تستخدمُ -إمعانًا في استفزاز مشاعر المتدينين- أسماء تكادُ تنطبقُ أوزانُها، على الرسل بكل تبجُّحٍ وتكبُّرٍ وصلف وجحود.
فضلاً عن الأحداث التي لايخفى تطابقُها مع ماجاء في نصوص الوحي المقدّس؛ على من عنده مسكةٌ من عقل.
الحارةُ تشيرُ إلى الدنيا، والبيتُ الكبيرُ الذي يسكنُهُ الجبلاوي -والعياذ بالله- يشيرُ إلى السماء.
فضلًا عن الشخوص التي تُفصِحُ حدّ الفضيحة عن شخوص المرسلين، فـ أدهم في الفصل الأول من الرواية هو آدم -عليه السلام-، وشخصيةُ إدريس تنطبقُ تمام الانطباق على إبليس الذي رفض السُّجود لآدم، وتمرّد على الله تعالى (الجبلاوي) لأنّه فضّل عليه أدهم ابن الجارية!
ثمّ بعد أن قام الجبلاوي بطرد إدريس من بيته الكبير (رحمته) وقع أدهم في الخطيئة بإغواء إدريس وتشجيع زوجته، يوم تسلل إلى الحجرة حتى يطّلع على كتاب أبيه (اللوح المحفوظ)، فكان جزاؤه الطرد من البيت الكبير (الجنة)، إلى الكوخ (الأرض) الذي ورثته ذريّتُه من بعده.
وأمّا قدري وهمام (ابنا أدهم) فهما قابيل وهابيل ابنا آدم، وفي الفصل الأول من الرواية، طوَّعت له نفسُه (قدري الشرير) قتل أخيه (همام الطيّب)، حتى لم يبقَ سوى قصة الغراب، لتكون القصةُ مطابقةً تمامًا لما جاءَ في نصوص القرآن الكريم عن بدء الحياة الإنسانية على الأرض.
ثم جاء الفصل الثاني تحت عنوان (جبل) ليذكر أحداثًا مطابقة تمامًا لما حكاه القرآن الكريم عن نبي الله موسى -عليه السلام-، وذلك في تعريضٍ مُتبجِّحٍ و وقحٍ بأحد الخمسة أولي العزم من الرسل.
وأمّا رفاعة في الفصل الثالث، فهو عيسى -عليه السلام- ، وأمّا قاسم في الفصل الرابع فهو محمد -عليه الصلاة والسلام- ومن بعده خليفته صادق (أبو بكر الصديق) الذي انقسم الناسُ عليه لتظهر (الشيعةُ) في مقابلِ (السُّنَّة)!
ثُمّ تأتي العلمانيةُ في الفصل الخامس والأخير من الرواية مُتجسِّدةً في شخصية (عرفة) الذي بفضله يموت الجبلاوي! لتضع المعرفةُ حدًا نهائيًا لخرافات الأديان كما صوّرها المؤلف المتبجِّح! فهل هذا إبداعٌ أم كفر صَرَاح؟
قلتُ لهذا المعارض مايلي:
استخدامُ محفوظ لتلك الشخصيات في الإشارة إلى الأنبياء واضحٌ غاية الوضوح، أمّا كلامُك عن الإساءة المتعمّدة إليهم، فلم يكن هذا مراد محفوظ، بل العكسُ هو الصحيح!
الروايةُ -على خلاف ماظنّه بعض المتدينين- شهدت بالجهد الجهيد الذي بذله الرسلُ الثلاثة (موسى-عيسى-محمد) عليهم السلام، فقد ضحوا بالنفس والنفيس من أجل إقرار العدل، والانتصار للحق والخير.
وقد قدمتهم الروايةُ في صورةٍ زاهيةٍ مشرقة، باستثناء بعض التجوُّزَات التي ربما أراد الراوي من خلالها إبعاد ذهن القارئ عن فكرة السرد التاريخيّ! وإعادته للسبك الدراميّ والرّوائيّ.
الروايةُ تحكي باختصار واقتدار .. قصة الإنسان .. معضلة الصراع الأزلي بين الخير والشر، وبين الحق والباطل ..
وأقصى مايمكنُ قولُه إنّ محفوظ استخدم أسلوب (التضمين) لبعض مسائل الوحي، وقضايا الغيب، فناقشها بكل حرية وأريحية، لا باعتبارها أمورًا يقنية لاتقبلُ الجدل أو حتى أساطير نسجها الأولون، بل من جهةٍ أخرى .. فلسفية وإنسانية، وإن كانت أقرب للوجهة الماركسية التي يبدو مقدار تأثره بها؛ لاسيما في المرحلة الزمنية التي كُتِبت فيها الروايةُ (1962 م).
ثمّ إنَّها (أي: الرواية) توقظ في النفس الإيمان بالحق، وتوقد فيها التعلّق بأسباب الخير، ولباب الجمال .. فضلا عن الانحياز للعدل والعدالة مهما كان قولُ الحقّ مُرًا على الألسنة ثقيلًا في الأفواه.
وتتعرّضُ -في الجملة- للإنسان ذاته، وتصوّرُ انفعالاته المختلفة، ومشاعره المضطرمة التي تتنازعُها نوازعُ الخير والشرّ، والتردد والتحيّر والتحيّز للحقِّ تارة، ولخلافِهِ تاراتٍ أُخرَى!
ولو قرأها الناقدون الناقمون بعين الرضا، لا بعين السخط، لفهموا أنها معهم لاضدّهم! وأنها تخدم قضيّتهم الكبرى، ثمّ لو عملوا على تحويلِها إلى فيلم سينمائي، لصار فيلمًا عالميًا، وهم أولى بذلك من الغير! فالمنتجون التقليديون المعروفون بتوجهاتهم السياسية، لن يُقدِمُوا على مثل تلك الخطوة!
فلو فعلوا -أي: المتدينون- لاستفادوا منها أكثر بكثير من مئات الخطب المنبرية، والدروس المسجدية .. التي تتفوقُ عليها جميعًا تلك الروايةُ العبقريةُ الفذّة للأديب نجيب رحمه الله.
ثمّ إنّ عجبي لاينقضي ممن يشغلون أنفسهم بإيمان فلان أو كفر علّان! بل أرى ذلك الاستغراق فيما لاطائل من ورائه .. من دلائل الاستلاب، وأمارات الاضطراب.
فلو أنّهم -أي: هؤلاء المتدينون- وجهوا بعضَ تلك الطاقاتِ المُهدرةَ -لا أقول لصناعة أديب كـ نجيب- بل لنقد كتاباته، وتشريح أطروحاته بدلاً من إصدار الأحكام على شخصه.
لكان خيرًا وأقوم .. لهم ولنا!
ولستُ أدري ما الذي يمكنُ أن يجنيه المسلمُ إذا عرف أنّ فلانًا قد ارتدّ! أو أنّ عِلّانًا مصيرُه النار؟ رغم أنّ الله تعالى لم يتعبدنا بالتحكّم في مصائر الناس! بل حذّرنا رسوله -صلى الله عليه وسلم- من التألي على الحق، ومن التعالي على الخلق.
فاللهم اجعلنا نورًا ولا تجعلنا نارًا .. اجعلنا جمالًا ولاتجعلنا قُبحًا .. اجعلنا رأفة ورحمة ورحمانِيّةً ولا تجعلنا قسوةً وغِلظَةً وعُتُوًّا وجورًا وفجورًا .. اجعلنا خيرًا ولا تجعلنا شرًا وشررًا .. اجعلنا بردًا وسلامًا، ولاتجعلنا حرّا وحربًا .. اجعلنا طريقا واحدًا ولاتجعلنا طرائق قِدَدًا. اللهم آمين
الخلاصة: “أولاد حارتنا” من أروع وأبدع ما كتب نجيب محفوظ الذي لم يزعم يومًا أنّه كاتبٌ إسلامي، بل من أروع وأبدع ما كتب إنسانٌ قط على وجه الأرض.
وفي رأيي أنّ الإشكاليةَ الكُبرَى في الرواية، هي الإشكاليةُ الماركسية!
فـ محفوظ يرومُ إقرارَ العدل والمساواة في الدنيا، وكأنّها هي الغايةُ والنّهاية .. رغم إقرارِهِ بأنّ الرسالات السماوية الثلاثة نجحت في إقامة العدل وتكريس العدالة، لكن لفترة مؤقتة، ثمّ لم يلبث الظلم إلاّ أن عاد ليسود ويستأسد!
أمَّا المنظورُ الإسلاميُّ، فيعُدُّ الحياة الدنيا دار بوار لا دار قرار، وبالتالي فتحقيق العدل المطلق فيها ممتنعٌ من الأصل.
ثمّ يوم القيامة .. يقف الناس جميعُهم بين يدي الله تعالى، مؤمنهم وكافرهم، ظالمهم ومظلومهم .. ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.
==============================
اقتباساتٌ من أروع وأبدع ما في الرواية
ومن عجب أن أهل حارتنا يضحكون! علام يضحكون؟ إنهم يهتفون للمنتصر أيًّا كان المنتصر، ويهلِّلون للقوي أيًّا كان القوي، ويسجدون أمام النبابيت، يداوون بذلك كله الرعب الكامن في أعماقهم. (ص 136)
أؤكد لك أنّ الثعابين أصلح للمعاشرة من أناس كثيرين، كالذين فررت منهم مثلا ! (ص 159)
وبكى بعض أصدقاء دعبس، مثل عتريس وعلي فوانيس، فصاح بهم جبل:
– يالكم من جبناء وأشرار، والله ماكرهتم الفتونة إلا لأنها كانت عليكم، وما أن يأنس أحدكم في نفسه قوةً حتى يُبادرَ إلى الظلم والعدوان، وما للشياطين المستترة في أعماقكم إلا الضرب بلا رحمة ولا هوادة، فإما النظام وإما الهلاك. (ص 208)
– غدا يمتلئ النادي بالأعوان الأقوياء والصادقين. غدا أتحدى بهم الناظر والفتوات وجميع العقبات. كي لايبقى في الحارة إلا جدٌ رحيم وأحفادٌ بررة. ويمحق الفقر والقذارة والتسوّل والطغيان. وتختفي الحشرات والذباب والنبابيت. وتسود الطمأنينة في ظل الحدائق والغناء. (ص 368)
– لن نطهر حارتنا من الفتونة إلا بالقوة، ولن نحقق شروط الواقف إلا بالقوة، ولن يسود العدل والرحمة والسلام إلا بالقوة، وستكون قوتنا أول قوةٍ عادلة غير باغية. (ص 388)
منذ أطلق إدريس ضحكته الباردة وأنتم تتوارثون الجريمة وتغرقون الحارة في بحر من الظلمات. ألم يئن للطير الحبيس أن ينطلق ؟ (ص 403)
==============================
اقتباساتٌ يرى المعارض أنّها تدعمُ قوله
ياجبلاوي! تعالى شف حالنا، تركتنا تحت رحمة من لارحمة لهم (ص 126)
هل يرضيك هذا الظلم يا جبلاوي (ص 135)
وحارتُنا لم تعرف يومًا العدالة أو السلام. هذا ماقضى به عليها منذ طرد أدهم و أميمة من البيت الكبير، ألا تعلم بذلك يا جبلاوي؟ ويبدو أن الظلم ستشتدُّ كثافة ظلماته كلما طال بك السكوت، فحتى متى تسكتُ ياجبلاوي؟ (ص 136)
أما العجوز فاستدرك صارخًا: يا جبلاوي ألا تسمعني؟ ألا تدري بما حلَّ بنا؟ لماذا عاقبت إدريس وكان خيرًا ألف مرة من فتوات حارتنا؟! يا جبلاوي! (ص 475)
فأجابه دون توقف: لله الأمر، من بعد العمر الطويل مات الجبلاوي! (ص 499)
==============================
اقتباساتٌ تدعمُ رأيي أنا
(ص 209)
هذه قصة جبل.
كان أول من ثار على الظلم في حارتنا. وأول من حظي بلقيا الواقف بعد اعتزاله. وقد بلغ من القوة درجة لم ينازعه فيها منازع.
ومع ذلك تعفف عن الفتونة والبلطجة والإثراء عن سبيل الإتاوة وتجارة المخدرات، ولبث بين آله مثالا للعدل والقوة والنظام.
ص (361 ، 362)
وقالت له قمر معاتبة: شد ما تهمل طفلتك الجميلة! تبكي فلا ترحمها، وتلعب فلا تلاعبها!
فابتسم إلى الوجه الصغير مستروِحًا نسمة منه لسعير فكره، وغمغم: ما ألطفها!
– حتى الساعة التي تجالسنا فيها تغيب عنَّا كأننا لم نعد من أهل دنياك.
فاقترب منها على الكنبة التي تجمعهما ولثم خدها، ثم قبَّل وجه الطفلة في أكثر من موضع وقال: ألا ترين أنني بحاجة إلى عطفكِ؟
– ولك قلبي كله بما فيه من عطف وحب ومودة، ولكن ينبغي أن ترحم نفسك.
وناولته الطفلة فاحتضنها وراح يهدهدها برفق وحنان مصغيًا إلى أنغامها السماوية. وبغتة قال: إذا نصرني المولى فلن أحرم النساء من ريع الوقف.
فقالت قمر بدهشة: لكن الوقف للذكور دون الإناث.
فرنا إلى العينين السوداوين في وجه الصغيرة وقال: قال جدي على لسان خادمه: إن الوقف للجميع، والنساء نصف كيان حارتنا، ومن عجب أن حارتنا لا تحترم النساء، ولكنها ستحترمهن يوم تحترم معاني العدالة والرحمة.
(ص 407)
وهتف رجل:
– أهلا بفتُوَّتنا قاسم.
فتغير وجه قاسم وصاح مغضبًا:
– ألا لعنة الله على الفتوات جميعًا، فلا سلام ولا أمان حيث يوجدون.
وتطلعت إليه الوجوه الجديدة فقال:
– سنرفع النبابيت كما رفعها جبل، ولكن في سبيل الرحمة التي نادى بها رفاعة، ثم نستغل الوقف لخير الجميع حتى نحقق حلم أدهم. هذه هي مهمتنا لا الفتونة.