روايات و قصص

أوراق حلاق \ الحلقة الثالثة

الطفل

بقلم الأستاذ هشام عيد

 

دخل به أبوه، لم يُلْقِ حتى التحية، وضعه كقطعة على الكرسي.

قال مسددًا أمره بلهجة حاسمة: “خِف له شعره”

فوجيء الطفل أنه في محل الحلّاق، صُدِمَ تمامًا، زمَّ شفتيه ونظر إلى أبيه بوَجَل.

لقد كشَّر هذا الأب طويلًا حتى صارت التكشيرةُ وسْمًا لا يغيب عن وجهه.

كانت ملامح الطفل الذي لم يتجاوز السادسة صمَّاءَ كالزجاج، كالأصنام تنظر بغير معنى.. أوشك أن يبكي من الفوطة والمقص والخوف مما يفعل الحلّاق، تململ مترددًا.

سدّد الأب نظرة قوية وقال بحسم: “بَس” فتوقفت محاولة البكاء.

وقف فوق رأسي وأنا أحلق، يتابع المشط وضربات المقص ويسيطر على الحياة. تذكرت قهري يوم “بُلت على نفسي” لمجرد مرور مدرس اللغة العربية المرعب في الفسحة، ملأني الذعر، رغم أنها فسحة، الأستاذ محمد عيش، كان يؤمن أن الرعب هو الوسيلة المثلى لتقييد الطفل؛ يتجمَّد، لَقِّنْه بعدها ما شئت من علم وفهم، نظرته تشلّ وعصاه تبقى في الذاكرة إلى الأبد.. نفس نظرة هذا الأب.. كنت أكبر من هذا الطفل بقليل.

استأنفت الحلاقةَ المهزومة مع بكاء الطفل المكتوم الذي احتبس في نفسه فتفجرت به ملامح وجهه وانتفخت أوداج عينيه.

أُفَضّل أن أحلق لطفل يبكي، رغم خطورة تحركاته المفاجئة، عن طفل ساكن مرتعب مرتب مطيع “متربي ع النظرة”، والأهم من ذلك أن يكون خاليًا من الأخطاء.

لماذا لا يتركه يبكي فقط؟ لماذا يعاملني كأننا نلتقي للمرة الأولى؟ عندما يأتي وحده يكون شخصًا آخر، مملًا أيضًا، لكن أقل سُمكًا.

سألنى: إنت بتعقّم العدة؟

هذا السؤال يعني ببساطة “هل أنت قذر!”.

كنت زاهدًا في الحديث معه وأكره وقوفه فوق رأسي مع كل ضربة مقص، أجبت مقتضبًا: “طبعًا يا أستاذ ناجي”. حدثني حديثًا مملًّا عن الأمراض المعدية والكبد الوبائي و..و..

انطلق في حديث يعرف كل تفاصيله ويمتعه التحدث فيه. احتل أذنيَّ، شعرت أنه يركبني ويدور بي.. طال حديثه قذارةَ معظم الحلّاقين.

رتابة حديثه المتتابع وصوته الجاد كانا شاذّين مع ضربات المقص المتسارعة والدمع المكتوم. إذا تحرك الطفل زَجَرَه وإذا جفلت عيناه نَهَرَه وإذا تَمَلمَل في جلسته سدَّد إليه نظرة كأنها مسمار يثبته في الحال..

قررت أن أذهب برأسي بعيدًا خشية الصدام الموشك، هربت كما هربت زوجته الأولى بعد أن “طفحت المرار” في عشرته، عاقبها بالحرمان من ابنها، هذا المقهور الذي يتوقف عن البكاء بأمر.

تَذَكَّرت صاحبي مدرس اللغة الإنجليزية الذى فُصِلَ من التدريس للأبد، كان منهجه قائمًا على التعليم من خلال اللعب، كان يقص عليّ وفي عينيه لمعة شوق كيف أن الأطفال يغنون أغانٍ إنجليزية مطولة في كورس متناغم مذهل وصوت موحد كأصوات الملائكة والمنشدين الصغار في الكنائس، لا يهم ماذا يفعلون بأجسادهم، يتمايلون ويرقصون ويعبِّر كلٌ بطريقته عن نشوته أثناء الإنشاد، يذهب بهم الوجدُ حيث يريد، يترنحون كالدوّامة ويطوِّحون أيديهم ورؤوسَهم وهم يرددون الأغنية التي تروي صراعًا بين القرود الصغيرة والتمساح

Three little monkeys are sitting on a tree.

Teasing Mr. Crocodile one two three.

دخل الناظر. وَجَدَهم متناثرين، معظمهم فوق “الديسكات”.. هُنَيهة من التردد عطَّلت أصواتهم ثم حثَّتهم عينا المدرس على التمادي فانطلقوا في عينيه، وَحَّدَهُم في لحن بهيج، لم يشأ أن يتوقف النغم ظنًا منه أنه سيشترك ولو بنظرة تشجيع، لكنه سدَّد تلك النظرة الناظرية التي تهز المدارس، ارتبك الأطفال قليلًا، لكن نظرته صارت ساذجة أمام فيض البهجة والأمل الهادر والتلاميذ ترقص وتغني وتهزُّ أياديها بغير انتظام، ولكن بمرح.

The naughty little monkeys

are shouting from the tree.

جمع أوراقه ومازالت نظرته الملهمة تبعثهم على الغناء.. تجاهل الناظر واتجه نحو الباب والقرود تهزأ من التمساح. نظرة “عيش” لم تعد تخيفهم..

Boo Mr. Crocodille,

You can’t catch me.

أُقصِيَ عن مهنة التدريس وصار لسنوات عاطلًا بلا عمل ثم تقاذفته الحياة في مهنٍ مختلفة.. كان فاترًا فيهن جميعًا…

ما زال يتابعني ويسدد ذات النظرة الجافة الحاسمة على ابنه وعليّ ويزحم المحل بأكمله والغيظ يملأني.

لو لم تكن هذه الحلاقة انتهت للكمته هو والناظر معًا. أعرف هذه السطوة الزائفة.. قشرة الثلج التي تحوِي تحتها الخيبة والوهن..

أنت ناظرٌ آخر بيدك عصا وسُلطة جائرة.

لم يعد الطفل يريد البكاء.

“غَيَّر الموس، لا تستعمله ع القفا.. دَرَّج بالماكينة”

سألته: “حلوة يا حبيبي؟”

لم يرد، ولم يكن في عينيه رد..

“انت اسمك إيه؟”

“لؤي ناجي جلال” قالها كالآلة.. كان سعيدًا أن الحلاقة انتهت.

دار حول رأس الطفل -وحول رقبتي-

-الحتة دى،هنا، هنا.

انتهت الحلاقة.. دفع ثلاثة جنيهات.

حمل الطفل – الشيء– وذهب.. تابعتهما…

هذا أول صغير لا ينظر حوله وهو يمشي.

*****

بعد عشرين عامًا، حـين تلقيه المهـنُ المختلفةُ منـدوبًا بائـسًا يستقبل الوافدين في المطار بلوحة عليها أسماؤهم، سوف يتذكر وهو واقف يصارع التعب ويريح قدمًا ليقف بأخرى ويظن كل الظن أن مسافره قد خرج ولم يره، وسوف يشعر بالرضا ويسامح كل سنوات الضياع حين يمر بجواره فتىً أنيق محاطًا برجاله، تلتقي أعينهما للحظة ثم يعود الفتى فجأة متخليًا عن كل وقار وهو يغني في ساحة انتظار المطار وسط دهشة الناس..

Three little monkeys are sitting on a tree

سيلتفت ويكمل بابتسامة تزداد اتساعًا كلما اقتربا ويعلو صوتهما معًا

Teasing Mr. crocodile one two three

وأثناء قربهما يكملان الأغنية.. ثم يرتمي الفتى الوقور بين ذراعي المدرس القديم ودموع فرحته، وقد تذكر لحظةً هي الأجمل في حياته.

اظهر المزيد

نافذ سمان

كاتب وروائي سوري الأصل يقيم في النرويج له خمس أعمال منفردة ( مجموعة قصصية ،ثلاث روايات وديوان نثري ) إضافة لثلاث كتب جماعية. له عديد المساهمات في المنظمات الانسانية والتربوية. كاتب مقالات رأي وصحفي في العديد من الصحف والصفحات العربية والنرويجية. صحفي لدى جريدة فيورنجن النرويجية.درس الصحة النفسية للطفل لدى جامعة هارفرد 2017. مجاز ليسانس في الحقوق 1999 وعمل كرئيس لقسم الجباية في سوريا لحوالي 11 عاماً.
زر الذهاب إلى الأعلى