أدب و ثقافةروايات و قصص

أنين الموتى

مجدي محروس

مجدي محروس

يكتب

” أنينُ الموتَى ”
ـــــــــــــــــــ
– ” من فضلك .. واحد شاي ”
التفتُ – وسطَ زحامِ المِقهى الذي يعجُّ بالزبائنِ على غيرِ عادتِه وقتَ الظهيرة – لمصدرِ الصوتِ، ولم أصدقْ عينىَّ ..
ربَّاه !!
هل هذا هو ” حسن ” ؟
نعم .. نعم إنه ” حسن “..
فها هو وجهُه المكتظُ، وشاربُه الرفيعُ، وشعرُه الخفيفُ ولكن ..
ألم يعرفني ؟!
ألم يتذكرني ؟!
إنِّي لم أره منذُ أكثر من عشرِ سنوات ..
منذُ أن تركت طريقَ الدراسةِ، وبدأت طريقَ الكفاح ..
منذُ أن حكمت على نفسي بالموت ..
ولم يكنْ بيدي ..
كان مِنْ أجلهم ..
أبي المريض ..
أخوتي الستة ..
الشقة المكوَّنة من حجرة واحدة ..
وكل ذنبي أنني الكبير ..
نعم .. هذا كل ما جنته يداي !
ولكن .. تُرى أين هو الآن ؟
وفي أيِّ مرحلةٍ دراسية ؟
لا بدَّ أنَّه علي وشكِ التخرجِ من الجامعة .
وضعتُ الشاي أمامه ..
لم تبدُ على وجههِ أيُّ علاماتٍ على أنَّه تعرَّفني ..
نظر إلىَّ نظرةً بلا معني، وقد وضع ساقا على ساق، وراحتْ عيناه تتصفحان كتابًا بين يديه ..
نظرتُ إلى ذلك الكتابِ الضخمِ بينَ يديه ..
وكم تمنيتُ في تلك اللحظةِ أنْ أخطفَ ذلك الكتابَ من بين يديه ..
كم تمنيتُ أن أغوصَ بين صفحاتِه ..
بين كلماتِه ..
بين حروفِه .
اشتعلتُ أعماقي أكثر وأكثر، وعقلي الباطنُ يصرخُ في مرارةٍ :
– لماذا .. لماذا حكمَ علىَّ القدرُ بالموت ؟
أما كان أولي بي أن أكونَ مكانه الآن ؟
ردَّ عقلي الواعي في حدَّةٍ :
– لا .. ليس القدرُ بل المجتمعُ وظروفه .
– المجتمعُ وظروفُه ما هم إلا إحدى ألاعيب القدر .
– القدر؟ !
– نعم القدر ..
القدر الذي جعلني العائلَ الوحيدَ لأخواتي الستة ..
القدر الذي جعلني الأملَ الوحيدَ لهم في الخروج من ذلك الجُحر الذي يعيشون فيه ..
– لستَ وحدكَ الذي تعاني من ذلك .
– أعلمُ ذلك .. أعلمُ أنني لستُ وحدي
وهذه هى المصيبة ..
فأنا عنوانٌ لجيلٍ بأكمله ..
جيلٌ سيظلُ أسيرًا بين أسوارِ الجهلِ والتخلف ..
جيلٌ سيظلُ طريحًا للفراش بعد أن هزمته الأوبئةُ والأمراض ..
جيلٌ لن يعرفَ طريقًا للتعليم أو للحياة الحرَّةِ الكريمة .
– هو الذي تسبَّبَ في ذلك، ولا بدَّ وأن يتحملَ نتيجةَ خطئِه .
– لا .. لا … هو ليس السبب ..
ما هو إلا ضحيةٌ من ضحايا المجتمع ..
ضحيةُ غيابِ العقلِ السليم ..
ضحيةُ غيابِ التخطيطِ البنَّاء ..
ضحيةُ غيابِ الضمير ..
نعم .. نعم هو ضحية .. ضحية .
يا إلهي ..
رأسي يكادُ ينفجر ..
مرة أخرى حملقتُ فيه بعينيَّ الغائرتين ..
مرة أخرى تمنيتُ أن انتزعه من مكانِه، وأقذفَ به بعيدًا و .. أجلس مكانَه .
فجأةً ..
وجدتُه ينهضُ من مكانِه، وهو يستعدُ للانصراف ..
جالتْ عيناه في المكان، وكأنَّه يبحثُ عن شيء ..
يا إلهي !!
إنَّه يقبلُ عليَّ ..
صرختُ بأعماقي في فرحةٍ :
– لعلَّه تذكَّرني أو تعرَّفني .
مسحتُ يدي في ملابسي استعدادًا للأحضانِ والقبل ..
اقتربَ منِّي ..
فردتُ ذراعيَّ؛ استعدادًا لتطويقه بين أحضاني ..
تطلعَ إليَّ بذهولٍ، ومدَّ يده إليَّ، وهى قابضةٌ على ورقةٍ ماليةٍ صغيرة ..
كانت الورقةُ الماليةُ رابضةٌ بين أصابعِه – وقد حاولَ إخفائها عن الأعين – وكأنَّه أمامَ سائلٍ مُحتَاج ..
نظرتُ للورقةِ الماليةِ، ولم أحركْ ساكنًا ..
انفلتتْ من عينيَّ دمعةٌ ساخنةٌ غابتْ بين التجاعيدِ التي حفرتَها قسوةُ الزَّمنِ علي وجهي ..
وفجأةً ..
عدتُ لعالمِ الواقع ..
تذكرتُ أبي المريض ..
تذكرتُ أخوتي الستة ..
تذكرتُ أنِّي أملُهم الوحيدُ في الحياة ..
حياةُ الموتى ..
و ….
مددتُ يدي، وتناولتُ الورقة َالمالية منه ..
بكلِّ هدوءٍ يتناولُ نظارتَه، ويضعها فوقَ جبينِه ..
وراحَ يغادرُ المكانَ بخطواتٍ واثقةٍ متزنة، وكتابه تحتَ إبطِه ..
تعلَّقتْ به عينايّ اللتان اغرورقتا بالدموعِ، وهو يبتعدُ ويبتعد ..
و ……….
– واحد شاي يا بني .
– شاي ؟ !
– أيوه شاي ! إنتَ مش قهوجي ؟
– أنا !!
أيوه قهوجي ..
قهوجي يا بيه !!
تمت بحمد الله
مجدي محروس

اظهر المزيد

نهاد كراره

نهاد كراره محاسبة وكاتبة مصرية صدر لها كتب مشتركة مثل بوح الصحبة و قطرات مطر وكتب فردية نيسان الوجع مدن الفراشات الدمشوري وآخر حدود الحلم نشرة العديد من المقالات علي المواقع الالكترونية المختلفة كموقع قل مقالات اجتماعية وبعض القصائد العمودية والعامية علي المواقع الأخرى صدر لها عدد من القصص في جرائد مختلفة منها صوت الشعب و جريدة القصة وغيرها عضو مجلس إدارة لموقع الصحبة نيوز مدير تنفيذي لدار الصحبة الثقافية للنشررالإلكتروني
زر الذهاب إلى الأعلى