المقال الاسبوعيمقالات الرأى

أمّة في وادي العميان

رئيس التحرير

 

يبرع العرب كل حين بإختراع ما من شأنه أن يعطي الانطباع، ويؤكده في آن ، بأنهم أمة تعيش خارج الزمن والمنطق.

أمة قد أضاعت بوصلتها فآثرت الجمود وأعتبرته طريق السلامة وبدأوا يعتبرون أن أي خطوة إلى الأمام ما هي إلا هرطقة وخروج عن المألوف وكفر بواح ، كل هذا بتصالح تام مع النفس وبتلقائية وبعقل جمعي يجعلك للحظات تتبنى موقف نونيز [1]بعد أن يئس من إقناع العميان بأن النظر ليس بتشوه خلقي وأن الغريب العجيب هو أن تكون إنسانا دون رؤية وليس العكس، فيقرر أن يتخلص من عينيه ليصبح أعمى بين العميان وجزءا من قطيع متشابه لا لون له ولا ملامح محددة.

ينظر العرب لعيني نونيز بأنهما أصل الشرور وأنهما ليسا إلا ابتلاءا من الرب الذي رحمهم وفضّلهم على العالمين بنعمة العمى والرضا بالعتمة المتوافرة.

المثير هنا أن العرب لم يعودوا في وادٍ منسيّ كوادي ه. ج. ويلز ، فقد سقطت تلك الاسوار التي لطالما حجبتهم عن الحضارة والمدنية التي تسربت من بين أصابعهم لتنمو بعيدا بعد أن أزاحوا الشمس عنهم بفعل فاعل ورضوا بعتمة مريحة متسلحة بفتاوٍ ما أنزل الله بها من سلطان.

في حين نرى أن كل العالم قد أقرّ بأن الديمقراطية هي التطور البشري والمنتج الأكثر أهمية لعلماء الاجتماع والفكر والثقافة والسياسة نرى أن العرب مازالوا يعتبرونها كفر بواح، ونرى تحالفا مشبوها دائم الصلة مع كل من ينظم نفسه تحت مسمى ديني مع كل ما من شأنه أن يُنتج لنا ديكتاتورية دموية وصنماً سرعان ما يلاقي دراويشه الراقصين ببرك الدم بسادية مازوخية غريبة، وما موقف إسلاميي السودان من أشقائهم بغريب فقد سبقهم من لاحاجة لنا بذكرهم الآن.

وفي سياق مشابه، وبعد أن تبلورت الانسانية في شرعة حقوق الطفل والمساواة وصولا لاتفاقيات الحفاظ على المناخ وحقوق الحيوان، نرى نقاشاً حاداً يندلع ليُثبت أحقيّة الرجل العربي المسلم بضرب زوجه، كونها من سقط متاعه والتي يملكها قيناً لا عقداً كما أقرّ الله.

المضحك المبكي، أن الخلاف هنا لم يتعدى الخلاف على طريقة الضرب ، هل هي لكسر عظام الزوجة، أم لمجرد كسر روحها وكبرياءها[2].

الأدهى أن أحد الملووثين قد تطوع ليشرح لنا فوائد الضرب الجنسية ولذة الجماع الذي يتلو تكرّم الزوج على زوجته بهدايا ضربه المبارك[3] وطبعا وجد من يؤيده بشدّة ويشد على يديه مباركاً له فتحه المبين.

طبعا كنا سابقاً قد خضنا نقاشاً مجتمعياً حاداً بعد أن تفاجأ العرب أنهم في أوربا ممنوعون من ضرب أطفالهم، الأمر الذي دفع العديد لأن يتركوا أرض هجرتهم ليعودوا لساحات النار والموت، فالموت أهون من أن يسلبهم أحد قدرتهم المؤيدة بأوامر عليا على السيطرة المطلقة على فلذات اكبادهم وهم المحرومون حتى من التحكم حتى باحلامهم في بلادهم العربية.

الأمر الأكثر إدهاشاً ما حدث مؤخراً في أوربا والبلاد العربية، فقد انقسمت البلاد المسلمة بين معلنة لعيد الفطر ومؤجلته ( اللهم إلا تركيا وبلاد البلقان الذين سبقوا الكل بإستغنائهم عن ثبوت الرؤية) .

وكالعادة فقد انتقلت الإنقسامات لبلاد المهجر وبدأت كل مدينة [4]وكل جالية وكل جنسية تعلن لها عيدا مستقلا متفاخرة بأنها وحدها الناطق الرسمي الموحى له بإسم الرب .

سريالية غريبة سيطرت على الجميع، فالأمر يتعلق بإجازات العمل ومواعيد السفر والامتحانات وما إلى ذلك من ارتباطات تُعتبر مقدّسة في بلاد تحترم الوقت ، ارتباطات كُتب لها أن تبقى معلقة حتى دخول الليل بدهشة تدعو للغثيان.

تخترع الأمم الأعياد ومناسباتها الخاصة لتجد مبررا للإجتماع[5] وتأكيد شعور الانتماء فنراهم يعتزون بلباس معين أو يشجعون فريقا أو لعبة ما أو يقدّسون مكاناً أو يحترمون تقليداً، في حين أننا نخترع كل ما يبعدنا عن بعضنا البعض ويزيد حدة خلافاتنا واختلافاتنا ونسأل الجميع أن يحترم تناقضنا ونكوصنا وتلوننا غير المبرر وغير المفهوم وغير المتسق مع عقل أو منطق.

لن أكرر ما اقترحته منذ ربع قرن وأطالب بمرجعية تجمع كلمتنا، بل سأقنع أن تصبح خلافاتنا أكثر منطقية، حتى على الأقل نجد ما ندافع به عن خلافاتنا التي يبدو أنها أصبحت فلكلوراً شعبياً نزهو به كل حين.

 

هوامش المقال:

[1] بطل قصة الانكليزي هربرت جورج ويلز ( بلد العميان ) الصادرة عام 1904

[2] كما صرّح شيخ الأزهر أخيراً.

[3] اضربوهم واركبوهم كما قال أشرف الخمايسي.

[4] أعلنت الرابطة الاسلامية في أوسلو أن العيد يوم الأربعاء في حين أعلنت مدينة درامن التي تبعد عن أوسلو 44 كيلو متر فقط أن العيد هو يوم الثلاثاء.

[5] في انتويرب البلجيكية يجتمعون في مباراة أجمل شارب ولحية وفي بينول في فالنسيا يتجمعون ليتراشقوا بالبندورة وفي مدينة سترين بالنرويج ليشاهدوا السيارات القديمة.

اظهر المزيد

نافذ سمان

كاتب وروائي سوري الأصل يقيم في النرويج له خمس أعمال منفردة ( مجموعة قصصية ،ثلاث روايات وديوان نثري ) إضافة لثلاث كتب جماعية. له عديد المساهمات في المنظمات الانسانية والتربوية. كاتب مقالات رأي وصحفي في العديد من الصحف والصفحات العربية والنرويجية. صحفي لدى جريدة فيورنجن النرويجية.درس الصحة النفسية للطفل لدى جامعة هارفرد 2017. مجاز ليسانس في الحقوق 1999 وعمل كرئيس لقسم الجباية في سوريا لحوالي 11 عاماً.
زر الذهاب إلى الأعلى