أدب و ثقافةروايات و قصص

أحلام الفقراء

حازم إسماعيل السيد

أحلام الفقراء

في ليلةٍ من ليالي الفقراء الهادئة بالمدينة الصاخبة جلستْ( خَضْرَة ) بعد عناءِ يومٍ طويل تحتضنُ أبناءَها الأربعـة فـوق فـراشِها الصـوفيِّ الخشن ، والأعينُ العشـرةُ تحـدِّقُ في شـاشةِ التليفزيون ذات الصـورة البـاهتـة .. ضمَّت الأمُّ صغـارِها لعلهم يجدون في حضنِها الدافئ ما يعوِّضهم عن غطائِهم البالي الذي تَلُفُّهُم به ، والذي لم يفلحْ في صدِّ تيارِ الهواءِ الباردِ المتسللِ من واجهةِ النافذةِ التي كُسِرَ زجاجُها واستبدلته بقطعةٍ من الكارتونِ ..
كانت ( خَضْرَة ) وأولادها يعيشون مستورين في كنفِ الزوجِ عامل البناء البسيط إلى أن أقعده المرض فلزم فراشه سنواتٍ أكلت تحويشة عمره ومات مديونًا .. لم تجدْ المرأة وفاءً لالتزاماتها سوى ترك الشقة التي أصبحت لا تقوى على سداد إيجارها إلى حجرةٍ في البدروم إيجارها متواضع ..
لم يكن للمـرأةِ مـوردًا للـرزقِ سـوى عمـلٍ متـواضع تكـدحُ فيه طـوال يـومها ، وتجهِّزُ له بعض سـاعـات الليل .. وتحت تاندة من الكارتون أسفلَ نافذةِ حجرتِها حجزتْ لها موضعًا على الرصيف ، وقد تحصَّنت وراء بعض التجهيزات البسيطة .. وابور جاز .. مقلاة زيت .. بعض الآنية ، والأطباق ، والزجاجات .. كومة من صفحات الجرائد ، وكومة من القراطيس الورقية المتراكبة لزوم التقديم والتعبئة .. تجلس القرفصاء طوال نهارها تقلي وتبيع ” الطعمية ” وبعض المقليات لأهل الحارة ، وفي الليل تجهِّز لعمل الغد .. تشتري الخُضْرَة ، ثم تغسلها .. تنقع حبات الفول ” المدشوش ” .. تطحن الجميع كما تطحنها الحياة .. تصنعها عجينًا ..
ساعات راحتها قليلة ، لكنها كانت تجد راحتها كلَّما شاهدتْ ابنها الأكبر يطالع كتاب مذاكرته ، ويجمع حوله باقي إخوته يعاونهم على المذاكرة ، فقد غرستْ في أبنائِها الإحساسَ بالمسئولية .. كانت ترضى بأن تحلَّ الآلامُ بجسدِها المنهك في مقابل هدفٍ لن تحيدَ عنه .. لابد أن يعيشوا حياة أفضل من معيشتها البائسة .. لم يكن امتهانها لتلك الحرفة بالأمرِ اليسير ، فكم حاربها بنو كارها في الحارة والحارات المجاورة باللين والحسنى تارة ، وبالشدَّةِ والتخويف أخرى ، كانت تجيبُهم في كلِّ مرَّةٍ بكلماتها العفويَّةِ التي لم يدنِّسْها مكرٌ ولا غدرٌ :
– الأرزاق بيد الله .. يا ناس يا هوو ! .. سيبوني أربِّي العيال !! ..
وكان ربنا دائمًا يسترها ، وتعدِّي على خير .. وكانت هيئةُ هذه النصبة البدائية لا تروقُ لصاحب العمارة الثري ، فكثيرًا ما أغلـظَ لها القـول ، وكم أمرهـا برفـع تلك الإشغـالات ، ولولا تدخُّل أهل الخير ما تركها .. والحمد لله الدنيا لا تزال بخير ، فقد غرس اللهُ الرحمةَ في قلوبِ بعضِ الجيران الطيبين الذين كانوا يساعدونها على المعيشة بما يجودون به عليها وعلى أبنائها ..
وبعد عناءِ يومٍ شاقٍّ في رحلة العمل اليومية سعيًا وراء لقمة العيش .. دخلتْ ( خَضْرَة ) تجرُّ ساقيها المتعبتين .. تحمل بأيدي متثاقلة عِدَّتِها التي تمثلُ كلَّ ثروتِها في الحياة .. افترشتْ المرأة وأبناؤها الأربعة الأرض حول العشاء الذي اقتطعته من بضاعة اليوم .. كان الغذاءُ شبه اليومي كثيرًا ما يتكرر .. والجميع شاكرين ، ولله حامدين ..
جهَّزتْ ( خَضْرَة ) لعمل الغدِ ، وكان أبناؤها يساعدوها بأدوارٍ بسيطةٍ .. وضعَ الابنُ الأكبرُ كومةً من الجرائدِ أمامها .. شرعتْ تصنعُ من تلك الأوراق قراطيسَ تقدِّمُ فيها سلعتها للزبائن .. لكأنَّ هذا العمل أعجبَ الصغار فتنافسوا على العمل على غيرِ نظامٍ .. أسهبَ كبيرُهم ذو السنوات العشرة في تعديد أهمية هذا العمل ، وصعوبة إنجازه ، وضرورة الالتزام بضوابط الصنعة القياسية .. أصغى إليه الصغـار في اهتمام ، ثم بـدأ يباشر العمل .. لفَّ ورقةً ، وصنعَ قرطاسًا .. شرع في صنع آخر بنفس الحجـم ، وأدخله فيه .. حاول أحدُهم أن يقومَ بمثل عملِه فانحلَّ القرطاسُ وانفتحَ .. حاولَ من جديد فلم يفلحْ .. أُصِيبَ بالملل بعد قليل ، وجذبه اللعبُ مع أخويه الصغيرين فانصرف إليهما ليدخلَ كرتونة كبيرة معهما ، كانت في عُرْفِ ثلاثتِهم سيارة .. انطلقتْ بهم ، وزمجرَ محركُها صوتٌ من حناجرِهم وشفاهِهم ..
كانت الأمُّ مشغولةً في عملها ، تتابع بسمعها ، ومن حين لآخر ببصرها حوارًا تليفزيونيًا ، أحدُ طرفيه مذيعُ البرنامج الشهير ، يرصدُ إحدى حالات البرنامج الإنسانية تماثل ظروفها .. كانت تجد في مثل ذلك البرنامج عزاءً لها .. يقفزُ في ذهنها فجأة المثلُ الشهيرُ ، يردِّدُهُ لسانُها في تأسُّف في حين تمصمص شفتاها :
– من شاف بلاوي الناس هانت عليه بلوته ..
تختمها بالحمد لله ، والشكر على ما عافاهم به وابتلى به غيرهم ..
والحمد لله إن أهل الخير كثير ، وهذا المذيع خير مثال ، فتدعو الله له شاكرة :
– ربنا يكرمه !! .. يا سلاااااام !! .. راجل طيب صحيح ..
كانت إحدى جاراتها قد أقنعتها أن ترسل إليه خطابًا تشرح له حالتها ، وتطلب المساعدة كغيرها من المحتاجين ..
رأى الصبيُّ صورةً للمذيعِ اللامعِ فجأةً على صفحةِ جريدةٍ فبسطها أمام عيني الأمِّ يلفتُ نظرها إليه .. لم تكن الأمُّ تعرفُ القراءةَ ، ولم يحملها بصرُها على استيضاح ملامحه بدقةٍ فأنكرتْ أن تكونَ صورتَه ، لكن الصبيَّ ذا الرؤية الثاقبة تمسَّكَ برأيه ، وأصرَّ عليه ، وقوَّى موقفه أن رأى اسمه تحتها .. ومع سفورِ وجهِ الحقيقةِ في الأمر بادرت الأمُّ إلى ابنها :
– اقرا لنا مكتوب إيه عليه ! .. لازم يكون مكتوب عنه كلام كويس .. ده راجل طيب طول عمره بيساعد الناس لله في لله .. كده من غير ما ياخد حاجة ! .. اقرا يمكن ربنا جايب لنا خير على إديه ! ..
بدأ الصبيُّ يقرأُ ويتهجَّى ، والأمُّ تلتقطُ مقاطع كلماته باهتمامٍ وتركيز :
– الحكم على ( … ) بالسجن لمدَّة عام لتهرُّبه من دفع ضريبة قيمتها ( 000000) مليون ، عن برنامجه التليفزيوني .. ومن المعروف أن المذيع الشهير يتقاضى في الحلقة الواحدة مبلغ ( 000000 ) ..
صُعِقَـتْ ( خَضْرَة ) لسماعِها تلك الأخبـار .. واستحثَّتْ ابنها على مـواصلـة القراءة ، فاستجـاب على الفـور :
– .. وتمت تسوية قام فيها بسداد مبلغ الضرائب المستحقة عليه ..
واصل الصبيُّ لفَّ القراطيس .. وواصل المذيعُ اللامعُ حديثه في التليفزيون .. و( خَضْرَة ) تستمعُ إليه باهتمام .. ولا تزال تحلم بالمستقبل تنتظرُ ردًّا على شكواها ..

اظهر المزيد

نهاد كراره

نهاد كراره محاسبة وكاتبة مصرية صدر لها كتب مشتركة مثل بوح الصحبة و قطرات مطر وكتب فردية نيسان الوجع مدن الفراشات الدمشوري وآخر حدود الحلم نشرة العديد من المقالات علي المواقع الالكترونية المختلفة كموقع قل مقالات اجتماعية وبعض القصائد العمودية والعامية علي المواقع الأخرى صدر لها عدد من القصص في جرائد مختلفة منها صوت الشعب و جريدة القصة وغيرها عضو مجلس إدارة لموقع الصحبة نيوز مدير تنفيذي لدار الصحبة الثقافية للنشررالإلكتروني
زر الذهاب إلى الأعلى